لماذا القومية فاعلة.. ولن تذهب إلى أي مكان

  • 8/3/2019
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

اندريس ويمر* ـ فورين أفيرزترجمة خاصة لـ «الغد» أعدها: نادر الغول   لا يبدو أن القومية تحظى بسمعة جيدة هذه الأيام. فهي في أذهان العديد من الغربيين المتعلمين، أيديولوجية خطيرة. ويعترف البعض بفضائل القومية الوطنية، التي تفهم على أنها تعلق الشخص بوطنه. في الوقت نفسه، يرون أن القومية ضيقة الأفق وغير أخلاقية، وتعزز الولاء الأعمى لبلد ما على حساب التزامات أعمق بالعدالة والإنسانية. في خطاب ألقاه في يناير ٢٠١٩ أمام السلك الدبلوماسي لبلاده، وضع الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير هذا الرأي بعبارات صارخة،  “القومية”، كما قال، هي “سم إيديولوجي”. في السنوات الأخيرة، سعى الشعوبيون في الغرب إلى عكس هذا التسلسل الهرمي الأخلاقي. لقد ادعوا بكل فخر Hن عباءة القومية،هي وعد بالدفاع عن مصالح الأغلبية ضد الأقليات المهاجرة والنخب البعيدة عن الواقع. وفي الوقت نفسه، يتمسك نقادهم بالتمييز الثابت بين القومية الخبيثة والوطنية الجديرة. أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في نوفمبر الماضي أن “القومية هي خيانة للوطنية”. يُعكس التمييز الشعبي بين الوطنية والقومية الفرق الذي صنعه العلماء بين القومية “المدنية”، والتي تعتبر جميع المواطنين، بغض النظر عن خلفياتهم الثقافية، كأعضاء في الأمة، مع القومية “الإثنية”، التي ينتمي إليها الأجداد واللغة وعليها تتحدد الهوية الوطنية. ومع ذلك، فإن الجهود المبذولة لرسم خط فاصل واضح بين الوطنية المدنية الجيدة والقومية العرقية السيئة تتجاهل الجذور المشتركة لكليهما. الوطنية هي شكل من أشكال القومية، فكلاهما يجمعهما الأيديولوجية، والفوارق بينهما ليست بعيدة. في الجوهر، جميع أشكال القومية تشترك في نفس المبدأين: أولاً، أن على أفراد الأمة، الذين يفهمون على أنهم مجموعة من المواطنين على قدم المساواة مع تاريخ مشترك ومصير سياسي في المستقبل، أن يحكموا الدولة، وثانياً، عليهم أن يفعلوا ذلك من أجل مصلحة الأمة. وعليه فإن القومية تعارض الحكم الأجنبي من قِبل أعضاء الدول الأخرى، كما في الإمبراطوريات الاستعمارية والعديد من الممالك الحاكمة، وكذلك تعارض الحكام الذين يتجاهلون وجهات نظر واحتياجات الأغلبية. خلال القرنين الماضيين، تم دمج القومية مع كل أنواع الأيديولوجيات السياسية الأخرى. ازدهرت القومية الليبرالية في القرن التاسع عشر في أوروبا وأمريكا اللاتينية، وانتصرت القومية الفاشية في إيطاليا وألمانيا خلال الفترة ما بين الحربين العالميتين، وحفزت القومية الماركسية الحركات المعادية للاستعمار التي انتشرت عبر “الجنوب العالمي” بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. اليوم، الجميع تقريبا، اليسار واليمين، يقبل شرعية المبدأين الأساسيين للقومية. يصبح هذا أكثر وضوحًا عند مقارنة القومية بمذاهب شرعية الدولة. في الأنظمة الثيوقراطية (الحكومات الدينية)، يجب أن تحكم الدولة باسم الله، كما هو الحال في الفاتيكان أو خلافة الدولة الإسلامية (أو داعش). في الممالك الحاكمة، تمتلك الدولة وتحكمها عائلة، كما هو الحال في المملكة العربية السعودية. في الاتحاد السوفيتي ، حكمت الدولة باسم الطبقة، البروليتاريا الدولية. منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، أصبح العالم عالمًا من الدول القومية محكومة وفقًا للمبادئ القومية. إن تحديد القومية على وجه الحصر مع الحق السياسي يعني سوء فهم طبيعة القومية وتجاهل مدى عمقها لتشكيل كل الإيديولوجيات السياسية الحديثة تقريبًا، بما في ذلك الليبرالية والتقدمية. لقد وفرت القومية الأسس الأيديولوجية لمؤسسات مثل الديمقراطية ودولة الرفاهية والتعليم العام، وكلها بررت باسم شعب موحد مع شعور مشترك بالهدف والالتزام المتبادل. كانت القومية واحدة من القوى المحركة الكبرى التي ساعدت في هزيمة ألمانيا النازية واليابان الإمبراطورية. وحرر القوميون الغالبية العظمى من الإنسانية من السيطرة الاستعمارية الأوروبية. القومية ليست مشاعر غير منطقية يمكن نفيها من السياسة المعاصرة من خلال التعليم المستنير. إنها أحد المبادئ التأسيسية للعالم الحديث وهي مقبولة على نطاق واسع أكثر مما يعترف به منتقديها. من في الولايات المتحدة سيوافق على حكم النبلاء الفرنسيين؟ من في نيجيريا سيدعو البريطانيين إلى العودة؟ مع بعض الاستثناءات، نحن جميعًا قوميون اليوم.  الأمة ولدت   القومية اختراع حديث نسبياً. في عام ١٧٥٠، كانت الإمبراطوريات الشاسعة متعددة الجنسيات، النمساوية والبريطانية والصينية والفرنسية والعثمانية والروسية والإسبانية، تحكم معظم العالم. ولكن بعد ذلك جاءت الثورة الأميركية، في عام ١٧٧٥، والثورة الفرنسية، في عام ١٧٨٩. انتشر مذهب القومية، الحكم باسم شعب مُعرَّف وطنيا،  تدريجيا في جميع أنحاء العالم. على مدار القرنين التاليين، انحلت الإمبراطورية بعد الإمبراطورية إلى سلسلة من الدول القومية. في عام ١٩٠٠، كان ما يقرب من 35 في المئة من سطح الكرة الأرضية تحكمه الدول القومية؛ بحلول عام ١٩٥٠، كان ٧٠ في المائة من دول العالم قومية. اليوم، لم يبق سوى نصف دزينة من الممالك والأسر الحاكمة.   من أين جاءت القومية، ولماذا أثبتت شعبية كبيرة؟ تعود جذور القومية إلى أوروبا الحديثة. تميزت السياسة الأوروبية في هذه الفترة، من السادس عشر إلى القرن الثامن عشر تقريبًا، بحروب مكثفة بين الدول المركزية والبيروقراطية على نحو متزايد. بحلول نهاية القرن الثامن عشر، كانت هذه الدول قد أبعدت إلى حد كبير المؤسسات الأخرى (مثل الكنائس) كمزود رئيسي للسلع العامة داخل أراضيها، وكانت قد أزالت أو اختارت مراكز القوى المتنافسة، مثل النبلاء المستقلين. علاوة على ذلك، عزز مركزية السلطة انتشار لغة مشتركة داخل كل ولاية، على الأقل بين المتعلمين، ووفر تركيزًا مشتركًا لمنظمات المجتمع المدني الناشئة التي أصبحت مشغولة بعد ذلك بشؤون الدولة.   لقد دفع نظام أوروبا المتعدد والتنافسي والمعرّض للحروب بشكل دائم الحكام لتحصيل المزيد من الضرائب من شعوبهم وتوسيع دور عامة الناس في الجيش. وهذا بدوره أعطى للعامة نفوذاً للمطالبة من حكامهم بزيادة المشاركة السياسية، والمساواة أمام القانون، وتحسين توفير المنافع العامة. في النهاية، ظهر ميثاق جديد: يجب أن يحكم الحكام بما يخدم مصالح السكان، وطالما فعلوا ذلك، فإنهم يدينون بالولاء السياسي والجنود والضرائب. لقد انعكست القومية على الفور وبررت هذا الاتفاق الجديد. فقد اعتبر أن الحكام والمحكومين ينتمون إلى نفس الأمة، ومن ثم كان لهم أصل تاريخي مشترك ومصير سياسي في المستقبل. بالتالي ستهتم النخب السياسية بمصالح عامة الناس بدلاً من مصالح سلالتهم.   لماذا كان هذا النموذج الجديد من الدولة جذابا للغاية؟ الدول القومية المبكرة،  فرنسا وهولندا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة،  سرعان ما أصبحت أقوى من الممالك القديمة والإمبراطوريات. سمحت القومية للحكام بفرض المزيد من الضرائب من المحكومين والاعتماد على ولائهم السياسي. ربما الأهم من ذلك، أثبتت الدول القومية قدرتها على هزيمة الإمبراطوريات في ساحة المعركة. إن التجنيد العسكري العالمي، الذي ابتدعته حكومة فرنسا الثورية مثلا، مكّن الدول القومية من تجنيد جيوش ضخمة كان جنودها مدفوعين للقتال من أجل وطنهم الأم. ما بين  ١٨١٦ إلى ٢٠٠١ ، فازت الدول القومية بين ٧٠-٩٠ في المائة من حروبها مع الممالك والأسر الحاكمة.   مع سيطرة الدول القومية في أوروبا الغربية والولايات المتحدة على النظام الدولي، سعت النخب الطموحة في جميع أنحاء العالم إلى التوفيق بين القوة الاقتصادية والعسكرية للغرب من خلال محاكاة نموذجها السياسي القومي. ولعل المثال الأكثر شهرة هو اليابان، حيث أطاحت مجموعة من النبلاء اليابانيين الشباب في عام ١٨٦٨ بالأرستقراطية الإقطاعية، والقوة المركزية في عهد الإمبراطور، وشرعت في برنامج طموح لتحويل اليابان إلى دولة قومية صناعية حديثة، وهو تطور معروف باسم استعادة ميجي (كانت استعادة ميجي، المعروفة أيضًا باسم تجديد ميجي أو الثورة أو الإصلاح أو التجديد، حدثًا أعاد الحكم الإمبراطوري العملي إلى إمبراطورية اليابان في عام 1868 في عهد الإمبراطور ميجي، إضافة من المترجم). بعد جيل واحد فقط، تمكنت اليابان من تحدي القوة العسكرية الغربية في شرق آسيا.   لم تنتشر القومية فقط بسبب جاذبيتها للنخب السياسية الطموحة. كانت جذابًة للناس العاديين ايضا، لأن الدولة القومية عرضت علاقة تبادل أفضل مع الحكومة مقارنة بأي نموذج سابق للدول. بدلاً من الحقوق المتدرجة على أساس الوضع الاجتماعي في الدول السابقة للقومية، وعدت القومية بالمساواة بين جميع المواطنين أمام القانون. بدلاً من اقتصار القيادة السياسية على النبلاء، و سمحت للعامة الذين لديهم الموهبة والقدرة على أن يكونوا جزء من القيادة السياسية. فبدلاً من ترك توفير المنافع العامة القرى والمؤسسات الدينية، عززت القومية سلطة الدولة الحديثة في تعزيز الصالح العام. وبدلاً من إدامة ازدراء النخبة للأصوات غير المثقفة العامة، رفعت القومية مكانة عامة الناس بجعلهم مصدرًا جديدًا للسيادة وبالتالي نقل الثقافة الشعبية إلى مركز الكون.  فوائد القومية   في البلدان التي تحقق فيها الاتفاق القومي بين الحكام والمحكومين، جاء السكان وتعاطفوا مع فكرة الأمة كأسرة ممتدة يدين أفرادها بالولاء والدعم. حيث نفذ الحكام  مسؤوليتهم من العقد، وعليه فإن مواطني الدولة  تبنوا رؤية وطنية للعالم. مهد هذا الأساس لمجموعة من التطورات الإيجابية الأخرى.   أحدها كان الديمقراطية، التي ازدهرت و استطاعت الهوية الوطنية أن تحل محل الهويات الأخرى، مثل تلك التي كانت  ترتكز على المجتمعات الدينية أو الإثنية أو القبلية. قدمت القومية الجواب على السؤال الكلاسيكي عن الديمقراطية: من هم الأشخاص الذين يجب أن تحكم الحكومة باسمهم؟ من خلال قصر الامتياز على أعضاء الأمة واستبعاد الأجانب من التصويت، دخلت الديمقراطية والقومية في زواج دائم.   في نفس الوقت الذي أسست فيه القومية تسلسل هرمي جديد للحقوق بين الأعضاء (المواطنين) وغير الأعضاء (الأجانب)، فقد سعت إلى تعزيز المساواة داخل الأمة نفسها. لأن الأيديولوجية القومية ترى أن الشعب يمثل هيئة موحدة دون اختلافات في المكانة، و عزز هذا المبدأ  بأن جميع المواطنين يجب أن متساوين في نظر القانون. وبمعنى آخر، دخلت القومية في علاقة تكافلية مع مبدأ المساواة. في أوروبا، على وجه الخصوص، غالبًا ما كان الانتقال من حكم الأسرة إلى الدولة القومية جنبًا إلى جنب مع الانتقال إلى شكل تمثيلي من الحكومة وسيادة القانون. حصرت هذه الديمقراطيات المبكرة في البداية الحقوق القانونية والتصويتية الكاملة على مالكي العقارات الذكور، ولكن مع مرور الوقت، امتدت تلك الحقوق لتشمل جميع مواطني الأمة، في الولايات المتحدة، أولاً للرجال البيض الفقراء، ثم للنساء البيض والأشخاص الملونين.   ساعدت القومية أيضًا في تأسيس دول الرفاهية الحديثة. أدى الشعور بالالتزام المتبادل والمصير السياسي المشترك إلى نشر فكرة أن أعضاء الأمة، حتى من هو غريب عن الامة،  يجب أن يدعموا بعضهم البعض في أوقات الشدة. تم إنشاء أول دولة رفاه اجتماعي حديثة في ألمانيا خلال أواخر القرن التاسع عشر بناءً على طلب من المستشار المحافظ أوتو فون بسمارك، الذي رأى أنها وسيلة لضمان ولاء الطبقة العاملة للأمة الألمانية بدلاً من البروليتاريا الدولية. ومع ذلك، تم تأسيس غالبية دول الرفاه الاجتماعي في أوروبا بعد فترات من الحماس القومي، معظمها بعد الحرب العالمية الثانية استجابة لنداءات التضامن الوطني في أعقاب المعاناة والتضحية المشتركة.  شعارات دموية   لكن كما يعلم أي طالب في التاريخ، فإن للقومية جانب مظلم أيضًا. يمكن أن يؤدي الولاء للأمة إلى شيطنة الآخرين، سواء كانوا أجانب أو أقليات محلية مزعومة. على الصعيد العالمي، زاد صعود القومية من وتيرة الحرب: على مدى القرنين الماضيين، ارتبط تأسيس أول منظمة أو مؤسسة قومية في أي بلد بزيادة إمكانية دخول هذه البلد في حرب كبيرة، والنسبة زادت من متوسط ١.١ إلى ٢.٥ بالمئة.   تشكلت حوالي ثلث الدول المعاصرة من خلال حروب استقلال وطنية ضد الجيوش الإمبريالية. ورافق ولادة بعض الدول القومية الجديدة مراحل من العنف والتطهير العرقي الأسوأ، وخاصة ضد الأقليات التي اعتبرت غير مخلصة للأمة أو يشتبه في تعاونها مع أعدائها. خلال حروب البلقان التي سبقت الحرب العالمية الأولى، قسمت كل من بلغاريا واليونان وصربيا المستقلة حديثًا الأجزاء الأوروبية من الإمبراطورية العثمانية فيما بينها، وطردت ملايين المسلمين عبر الحدود الجديدة إلى بقية الإمبراطورية. ثم، خلال الحرب العالمية الأولى، انخرطت الحكومة العثمانية في عمليات قتل جماعية للمدنيين الأرمن. خلال الحرب العالمية الثانية، أدى تشويه هتلر لليهود، الذي ألقى باللوم على صعود البلشفية، والذي اعتبره تهديدًا لخططه في إقامة إمبراطورية ألمانية في أوروبا الشرقية، إلى الهولوكوست. بعد نهاية تلك الحرب، تم طرد ملايين المدنيين الألمان من الولايات التشيكية السلوفاكية والبولندية التي أعيد إنشاؤها. وفي عام ١٩٤٧، قُتل عدد هائل من الهندوس والمسلمين في عنف طائفي عندما أصبحت الهند وباكستان دولتين مستقلتين.   ربما يكون التطهير العرقي أكثر أشكال العنف القومي فظاعة، لكنه نادر الحدوث نسبياً. وكان الغالب هو الحروب الأهلية التي خاضها إما الأقليات القومية التي ترغب في الانفصال عن دولة قائمة أو بين مجموعات عرقية تتنافس على السيطرة على دولة مستقلة حديثًا. منذ عام ١٩٤٥، شهدت ٣١ دولة عنفًا انفصاليًا، وشهدت ٢٨ دولة صراعات مسلحة على التكوين العرقي للحكومة الوطنية.    شاملة وحصرية   على الرغم من أن النزعة القومية تميل إلى العنف، إلا أن هذا العنف كان موزعا بشكل غير متساو. ظلت العديد من الدول سلمية بعد انتقالها إلى الدولة القومية.  وعليه فإن فهم لماذا يتطلب التركيز على كيفية ظهور الائتلافات الحاكمة وكيف يتم رسم حدود الأمة كان اساسيا. في بعض البلدان، يتم تمثيل الأقليات في أعلى مستويات الحكومة الوطنية منذ البداية. على سبيل المثال، قامت سويسرا بدمج المجموعات الناطقة بالفرنسية والألمانية والإيطالية في ترتيب دائم لتقاسم السلطة لم يشكك به أحد منذ تأسيس الدولة الحديثة في عام ١٨٤٨. في المقابل، يصور الخطاب القومي السويسري جميع المجموعات اللغوية الثلاث كأعضاء يستحقون نفس القدر من الانتماء إلى الأسرة الوطنية. لم تكن هناك حركة من قبل الأقلية السويسرية الناطقة بالفرنسية أو الإيطالية للانفصال عن الدولة.   في بلدان أخرى، استولت النخبة من مجموعة عرقية معينة على الدولة، ثم شرعت في حرمان  مجموعات عرقية أخرى  من السلطة السياسية. وهذا يثير شبح ليس فقط التطهير العرقي الذي تتبعه نخب الدولة المصابة بجنون العظمة بل وأيضًا الانفصالية أو الحرب الأهلية التي تشنها الجماعات المستبعدة من الحياة السياسية نفسها، التي تشعر أن الدولة تفتقر إلى الشرعية لأنها تنتهك المبدأ القومي للحكم الذاتي والتمثيل. تقدم سوريا المعاصرة مثالاً متطرفاً على هذا السيناريو: الرئاسة، والحكومة ، والجيش ، والمخابرات، والمستويات العليا من البيروقراطية كلها يسيطر عليها العلويون، الذين يشكلون ١٢ في المائة فقط من سكان البلاد.  وعليه ليس مستغربا أن العديد من أعضاء الأغلبية العربية السنية في سوريا كانوا على استعداد لخوض حرب أهلية طويلة ودموية ضد ما يعتبرونه حكمًا غريبًا.   سواء كان تكوين السلطة في بلد معين تم تطويره في اتجاه أكثر شمولية أو حصرية، فهو مسألة تاريخية، تمتد إلى ما قبل صعود الدولة القومية الحديثة. تميل الائتلافات الحاكمة الشاملة،  والقومية الشاملة،  إلى الظهور في بلدان ذات تاريخ طويل من الدولة المركزية البيروقراطية. اليوم، هذه الدول أكثر قدرة على تزويد مواطنيها باحتياجاتهم العامة. هذا يجعلهم أكثر جاذبية كشركاء، و يحولون ولاءهم السياسي بعيداً عن الزعماء الإثنيين الدينيين والقبليين وإلى الدولة، مما يسمح لظهور تحالفات سياسية أكثر تنوعًا.  التاريخ الطويل من الدولة المركزية يعزز أيضًا تبني لغة مشتركة، مما يجعل من السهل مرة أخرى بناء تحالفات سياسية عابرة للانقسامات العرقية. أخيرًا، في البلدان التي تطور فيها المجتمع المدني مبكرًا نسبيًا (كما حدث في سويسرا)، كان من المرجح ظهور تحالفات متعددة الأعراق من أجل تعزيز المصالح المشتركة، مما أدى في النهاية إلى نخب حاكمة متعددة الأعراق وهويات وطنية شاملة.  بناء قومية أفضل   لسوء الحظ، تعني هذه الجذور التاريخية العميقة أنه من الصعب، خاصة بالنسبة للأجانب، الترويج للتحالفات الحاكمة الشاملة في البلدان التي تفتقر إلى الظروف اللازمة لظهورها، كما هو الحال في أجزاء كثيرة من العالم النامي. يمكن للحكومات الغربية والمؤسسات الدولية، مثل البنك الدولي، المساعدة في وضع هذه الشروط من خلال اتباع سياسات طويلة الأجل تزيد من قدرة الحكومات على توفير المنافع العامة، وتشجيع ازدهار منظمات المجتمع المدني، وتشجيع التكامل اللغوي. لكن هذه السياسات يجب أن تقوي الدول، ولا تقوضها أو تسعى إلى أداء وظائفها. يمكن للمساعدة الأجنبية المباشرة أن تقلل أو تحد من شرعية الحكومات الوطنية، بدلا من تعزيزها. يُظهر تحليل الدراسات الاستقصائية التي أجرتها مؤسسة آسيا في أفغانستان من عام ٢٠٠٦ إلى عام ٢٠١٥ أن الأفغان لديهم نظرة أكثر إيجابية عن عنف طالبان بعد أن رعى الأجانب مشاريع السلع العامة في مقاطعاتهم.   في الولايات المتحدة والعديد من الديمقراطيات القديمة الأخرى، تختلف مشكلة تعزيز الائتلافات الحاكمة الشاملة والهويات الوطنية. حيث تخلت قطاعات الطبقة العاملة البيضاء في هذه البلدان عن أحزاب يسار الوسط بعد أن بدأت تلك الأحزاب في اعتناق الهجرة والتجارة الحرة. كما تشعر الطبقات العاملة البيضاء بالاستياء من تهميشها الثقافي من قبل النخب الليبرالية، التي تتهم الرجل الأبيض وكارهي المثلية الجنسية على انهم اعداء التقدم. تجد الطبقات العاملة البيضاء أن القومية الشعوبية جذابة لأنها تعد بإعطاء الأولوية لمصالحها، وحمايتها من المنافسة من المهاجرين أو العمال ذوي الأجور المنخفضة في الخارج، واستعادة مكانتهم المركزية والكريمة في الثقافة الوطنية. لم يكن على الشعبويين أن يخترعوا فكرة أن الدولة يجب أن تهتم في المقام الأول بالأعضاء الأساسيين في الدولة. لقد كانت دائمًا متأصلة بعمق في النسيج المؤسسي للدولة القومية، وهي جاهزة للتفعيل بمجرد زيادة جمهورها المحتمل بدرجة كافية.   سيتطلب التغلب على عزلة هؤلاء المواطنين واستيائهم حلولا ثقافية واقتصادية. يجب على الحكومات الغربية تطوير مشاريع  عامة  تعود بالنفع على الناس من جميع الألوان والمناطق والخلفيات الطبقية، وبالتالي تجنب التصور المسموم عن المحسوبية العرقية أو السياسية. إن طمأنة الطبقة العاملة والسكان المهمشين اقتصاديًا، الذين يمكنهم الاعتماد على تضامن مواطنيهم الأكثر ثراءً وتنافسية، قد يقطع شوطًا طويلًا نحو التقليل من جاذبية الشعبوية القائمة على الاستياء والمناهضة للهجرة. يجب أن يسير هذا جنبًا إلى جنب مع شكل جديد من القومية الشاملة الحاضنة. في الولايات المتحدة، اقترح الليبراليون مثل المؤرخ الفكري مارك ليلا والمحافظين المعتدلين مثل العالم السياسي فرانسيس فوكوياما مؤخرًا كيف يمكن بناء مثل هذه الرواية الوطنية: من خلال احتضان كل من الأغلبيات والأقليات، والتأكيد على مصالحهم المشتركة بدلاً من تأليب الرجال البيض ضد تحالف الأقليات العرقية، كما هو الحال اليوم من قبل التقدميين والقوميين الشعبويين على حد سواء.   في كل من العالم المتقدم والنامي، القومية موجودة لتبقى. لا يوجد حاليا أي مبدأ آخر يقوم عليه نظام الدولة. (العالمية الشمولية، على سبيل المثال، لا يمكن تسويقها خارج أقسام الفلسفة في الجامعات الغربية). ومن غير الواضح ما إذا كانت المؤسسات العابرة للحدود الوطنية مثل الاتحاد الأوروبي ستتمكن أبدًا من الاضطلاع بالوظائف الأساسية للحكومات الوطنية، بما في ذلك الرعاية الاجتماعية والدفاع، والتي ستتيح لها اكتساب الشرعية الشعبية.   يتمثل التحدي الذي يواجه كل من الدول القومية القديمة والجديدة في تجديد العقد الوطني بين الحكام والمحكومين عن طريق بناء أو إعادة بناء الائتلافات الشاملة التي تربط الاثنين. هو البحث عن أشكال حميدة من القومية الشعبية نابعة من الإدماج السياسي. ايديولوجية قومية لا يمكن فرضها من الأعلى، ولا من خلال محاولة تثقيف المواطنين حول ما ينبغي اعتباره مصالحهم الحقيقية. من أجل الترويج لأشكال أفضل من القومية، يتعين على القادة أن يصبحوا قوميين أفضل، وأن يتعلموا البحث عن مصالح جميع شعوبهم.   *أستاذ علم الاجتماع والفلسفة السياسية ليبر بجامعة كولومبيا ومؤلف كتاب “بناء الأمة: لماذا تتقارب بعض الدول مع بعضها، في حين تنهار دول أخرى”.   لقراءة المقال الأصلي اضغطهنا

مشاركة :