في نقد مقولة فشل الحداثة عند العرب!

  • 4/17/2015
  • 00:00
  • 11
  • 0
  • 0
news-picture

ردد الكثيرون من مثقفينا وكتابنا مقولة «فشل الحداثة العربية» كما لاكتها طويلاً الحركات الأصولية والإسلام السياسي والجهادي، مبررين ومشرعنين لحضورهم وفعلهم، انقلاباً على الحداثة وعلى المدنية، سواء من أجل تطويعها أو أسلمتها. هكذا فعلت وسعت بعض حركات الإسلام السياسي التي انطلقت من مقولة الاكتفاء النظري، ورفضت المجموعات والحركات الجهادية منتوجات الحداثة كلياً، في أطوارها المختلفة. فقد رفضت التعليم المدني والحديث، بدءاً من شكري مصطفى وجماعته حتى أبو محمد المقدسي ورسالته «إعداد القادة الفوارس في هجر فساد المدارس»، كما رفضت مقولة الديموقراطية على رغم جذرها الشوري واعتبرتها ديناً من يقبله أو يقتبسه يكون كافراً، كما كتب عبدالقديم زلوم النائب الثاني لحزب التحرير قبل فترة. كما كتب المقدسي: «الديموقراطية دين!». وهي ترفض فكرة الوطن والوطنية، وهي عند الظواهري وسائر منظري القاعدة وخلفهم داعش، صنم الوحدة الوطنية الذي ينبغي هدمه، كما ترفض التقنين الوضعي والنزعة الدستورية على رغم أن الإسلام الخليفي عرف المدونات والقوانين منذ عهد عمر بن الخطاب وحتى سليمان القانوني والمدونات العثمانية والدواوين والتنظيمات العمومية! يبقى إصرار الإسلاميين والجهاديين على القول بفشل الحداثة مفهوماً ومبرراً، يشرعنون به العودة لتصوراتهم غير التاريخية قبلها، بحيث ننحصر وننحشر في شيوخها وتأويلاتها المرجعية وحدها! وبالتالي نقبع تحت سلطتها، في الاجتماع والسياسة وفهم الوطن والعالم. لكنّ انجراف بعض الأصوات المدنية والحداثية للإقرار والقبول وتكرار هذه المقولة من دون تحقيق أو تدقيق، غيّر المفهوم وكأنهم لا يشاهدونها في مسارات المجتمع والدولة العربية المعاصرة التي هي من منجزات هذه الحداثة على رغم أعطابها. وتبدو منجزاتها أوضح في الاجتماع والأدب على الخصوص، نجدها في تعليم النساء وحريتهن ومكانتهن التي تتأكد يوماً بعد يوم في هذه البلاد، كما نجدها في المعنى السائد فناً وأدباً وصورة، وفي الدولة نجدها حديثاً مفتوحاً عن الدستورية والديموقراطية والوطنية والمواطنة، فهذه مخرجات هذه الحداثة التي يقذفونها، من دون بيّنة، بالفشل. ليس ثمة سبب آخر غير الحداثة، منذ تبشير «المرشد الأمين في تعليم البنات والبنين» لرفاعة الطهطاوي، و «تحرير المرأة» سنة 1899 و «المرأة الجديدة» لقاسم أمين سنة 1901، وتونسياً «امرأتنا بين الشريعة والمجتمع» للطاهر الحداد سنة 1930، يمكن أن نفسر به وضع المرأة العربية المعاصرة. ففي بلد كمصر بلغت نسبة الحاصلات على دبلوم وماجستير ودكتوراه (2007/2008) 65 في المئة من إجمالي عدد الخريجين، وعلينا أن نتخيل ما الذي سيحصل لو لم يكن تبشير الطهطاوي أو نضال أمين أو الحداد من أجل القضية النسوية حتى نفهم دور الحداثة، ونسائل نجاحها وفشلها! وفي مصر أيضاً تبلغ نسبة الحاصلات على جوائز الدولة التقديرية في مجال العلوم والتكنولوجيا (2009) 83 في المئة ونسبة الحاصلات على جائزة الدولة للتفوق (2009) 43 في المئة وفق بيانات الجهاز المركزي للإحصاء! وفي بلد كتونس تضاعف حجم النساء العاملات 4 مرات في العقود الثلاثة الأخيرة، وبلغت نسبة النساء اللواتي يعملن في سلك التعليم الابتدائي 49 في المئة، والثانوي 44 في المئة، والتعليم العالي 29 في المئة، فيما تشكل النساء نسبة 38 في المئة من عدد الأطباء و62 في المئة من أطباء الأسنان و71 في المئة من الصيادلة. ويعتبر قطاع الأعمال المجال الحديث الذي اقتحمته المرأة التونسية، حيث يوجد حالياً 1700 امرأة، وفق البيانات الحكومية، يدرن مؤسسات ومشاريع اقتصادية، بالإضافة إلى أن 13 في المئة من الشركات التجارية تعود ملكيتها إلى نساء. وفي بلد كالإمارات، أوائل 2015، نجد 23 ألف سيدة أعمال تشارك في التنمية، وبلغت نسبة مساهمة المرأة الإماراتية في الاقتصاد الوطني 30 في المئة من المشاريع الصغيرة والمتوسطة، ووصل عددهن إلى 23 ألف سيدة أعمال، ويستحوذن على 30 في المئة من الوظائف القيادية العليا المرتبطة باتخاذ القرار، إلى جانب 60 في المئة من وظائف القطاع الحكومي. وتمثل المرأة الإماراتية 25 في المئة من القوة العاملة و4.5 في المئة من الأعمال الحرة المساهمة بالاقتصاد الوطني. كذلك يمكن اختبار الحداثة ودعاواها في الرابطة السياسية وفي انتشار مفاهيم وقيم حداثية كالحرية والديموقراطية والوطن والمواطنة والمؤسسة والفصل بين السلطات والشرعية الدستورية والتنظيمات العمومية، على رغم ما قد تعانيه هذه المفاهيم من مشكلات وإرباكات غير حداثية، أيديولوجية أو معادية أو فردية، لكن تمكينها واستقرارها يعنيان أن الحداثة نجحت في مأسستها. فلولا جهود باكرة للحداثة في التمكين لهذه الدعوات والإصرار عليها والنضال من أجلها لما دخل العرب الحداثة التي يصارعونها حتى الآن، ويريد البعض أن يعود بها لما قبلها. فبفضل دعوات الحداثيين نشأت الدساتير: من خير الدين باشا إلى دستور 1923 المصري، وبدعواتهم وجهودهم نشأت الجامعات (محمد عبده، تـ 1905) وتأسست الجامعة المصرية أواخر 1908، بفضل جهود وتبرعات من آمنوا من أهل الحداثة بهذه الفكرة حينها. كذلك انتشرت الترجمات والطباعة والصحافة ونشاطات الثقافة وصلت حتى إلى البادية! وقد عرفت في تراث النهضة المصرية باحثة البادية ملك حفني ناصف (تـ 1918)، الشاعرة والكاتبة في «الجريدة» لأحمد لطفي السيد، والتي كانت تدرس النساء في بادية الفيوم حيث بعض القبائل العربية هناك. كما لم تكن غير جهود المدنية والحداثة تفجيراً لدعاوى الحرية والتحرر في الاستقلال الأول من الاستعمار، وفي الاستقلال الثاني من التقليد والماضوية، واستمرت الحداثة مؤسسات وجهوداً وإبداعاً وأدباً مارس التجريب والتجديد في الشعر والرواية والمسرح والسينما والفنون، كما مارس التجديد في خدمة التراث وتطوير فهمه ومناهجه وتجاوز النمط الأحادي التقليدي والمحدود في فهمه! فإن كان لحسن البنا أبناء ودعاة وتنظيمات خرجت من عباءته، فلا شك في أن محمد عبده خلّف أبناء أكثر وأبعد أثراً وأمكن حضوراً! فالحداثة لم تفشل، ولكن ما زالت كما بدأت طامحة للمزيد، وتتجاوز منعطفاتها التي تصنعها طبائع الاستبداد ومصارع العباد وغلق باب الاجتهاد. * كاتب مصري

مشاركة :