رواية يوسف المحيميد بين صوتين متقاطعين

  • 4/17/2015
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

تثير رواية الكاتب السعودي يوسف المحيميد «غريق يتسلى في أرجوحة»، الصادرة عن المركز الثقافي العربي، حيرة القارئ، حين يشعر أنه أمام حكاية ذات مضمون عادي، ولغة قصّرت في منحه العباءة الجمالية الشكلية، التي يتوخاها النقد الأدبي حين ينظر إلى النص الأدبي في كونه قيمة جمالية. ولكن لو نظرنا إلى نص الرواية من منظور حداثي، فلا بد من ملاحظة بعده الثقافي المكتسب من بيئته، ويظهر ذلك بجلاء من خلال تتبع تصرفات شخصيات الرواية وأنماط تفكيرها ونظرتها للأمور وتقييمها، فلم يُثر فيضان جدة المأسوي في منتج الأفلام القصيرة صلاح، سوى كونه مادة خاماً لفيلمه القادم «سيكون هذا الفيلم صفقته المنتظرة، التي سيبيعها على أضخم القنوات العربية والعالمية». قسّم الكاتب روايته إلى ثمانية فصول، ووضع لكل فصل عنواناً من وحي مضمونه. وتقاطع سرد الفصول من خلال ضمير المتكلم بين الراوي فيصل والراوية ناهد. كل منهما يسرد الحدث من منظاره، وفي كثير من الأحيان يملأ الفراغ الذي تركه الآخر، من طريق الإفصاح عن الذات وتفسيراتها الخاصة للأحداث وهواجسها النفسية. روى فيصل، الذي يعمل كمُخرج للأفلام السينمائية القصيرة، حادثة هروبه من صوت والدته الذي بقي يرن في أُذنه بعد موتها، فترك البيت واستأجر شقة صغيرة في عمارة في شارع العليا - مدينة الرياض، ولم يكن يعلم أنها تُطلّ على مقبرة صغيرة. أما همّ المنتج صلاح الوحيد، فتمثل في أن يتوصل فيصل إلى أفكار لأفلامه القصيرة. انطلق مضمون الرواية من ذاكرة فيصل، التي امتدت لتتمازج بذاكرة المطلقة ناهد، التي التقى بها في مركز جدّة للعلوم والتكنولوجيا. وأشار إلى أن إدمانه مشاهدة الأفلام السينمائية، هو الذي جعله يصبح مخرجاً للأفلام القصيرة: «وأدمنت الأفلام كلها، لا أتردد في مشاهدة أي فيلم، كان مجرد اشتعال الضوء في الشاشة الفضيّة الصغيرة يأسرني، ويذهب بعقلي بعيداً» وأسهب في تعداد أسماء الأفلام التي شاهدها، ولخص بعضها، وسرد الأثر الذي تركته تلك الأفلام في نفسه. وحوت الرواية عدداً كبيراً من أسماء الروايات، وأسماء الكتّاب والمغنين والممثلين والمسلسلات. ولا بدّ من الإشارة إلى البعد الروحي الذي سكن فيصل وملأ أجواء الرواية، حين حار في سرّ الوجود البشري، وتساءل عن ماهية الموت؟ ومن هو الميت الحقيقي... أهو من يسير على الأرض أم من هو تحت التراب؟: «ولم يكن آخرها يقيني بأن الموتى هم الذين يجوبون الشوارع، بينما الأحياء هم أهل المقابر النائمين بسلام تحت أسرتهم». شرك الحب أما ناهد فسردت بدورها كيف وقعت في حب فيصل: «التهمتني عيناه النسريتان، فأحسست أنني خفيفة ورفرافة، صرت امرأة من ريش، وها هي اللحظة التالية، أسير نحوه، أحمل حلماً في رأسي، وبحراً في جوفي، يا للغرابة!»، ثم سردت حادثة خيانته لها مع صديقتها زينب: «فهو حتماً لم يحبني، لكنه أحبّ حبي له، وإلا كيف مدّ ذراعه لأول عابرة من دون أن يفكر بي». كانت دلالات نص الرواية صريحة توصيلية لا ضمنية، لذلك لم ترتبط بالوظيفة الجمالية للغة. ولم يرتبط بعدها الزماني في بُعدها المكاني، فبدت شخصيتا فيصل وهند منفصلتين عنهما، ولم تتحركا في أبعد من أفق ما يدور في رأسيهما أثناء سرد الأحداث المستعادة من الذاكرة، والتي لها علاقة مباشرة بثقافتيهما - فيصل المتحرر ظاهراً في أفكاره وألفاظه وبعض تصرفاته، أما داخلياً فأسير هواجسه وخيالاته ومخاوفه. وناهد المحافظة رغماً عنها من نفسها - إلا أنّ لا بد من الإشارة إلى الدلالة الزمنية المعنوية الوحيدة المرتبطة بنفس فيصل، وهي شهر نيسان (أبريل) الذي وُلد فيه عام 1973: «وحين كبرت عرفت أن ولادتي كانت في شهر أبريل، شهر الأكاذيب، فداهمتني خلال فترات لاحقة من حياتي أحاسيس غريبة ومزعجة، كأن أشعر أنني كذبة، وأنني لم أولد أصلاً، ولم أعش بتاتاً». أما الدلالة اللغوية للعبارة التي أخبر فيها فيصل عن شهر ولادته، فقد ظهرت حين حصل التكرار في سطرين متواليين: «وُلدت في يوم غبار ترابي، كان الوقت في نيسان... وحين كبرت عرفت أن ولادتي كانت في شهر أبريل»، فالتكرار هنا على رغم استخدام كلمة نيسان في السطر الأول وأبريل في السطر الثاني ربما يدل على الوضع النفسي غير المستقر للراوي، الذي ربط مصيره وتكوينه بفكرة. حاضر الراوي انطلقت الرواية من حاضر الراوي وهو في صدد التحضير لبعض الأفكار لأفلامه القصيرة، مروراً بالماضي المسترجع من الذاكرة، ذلك الماضي الذي مهد للنهاية التي جسدت حاضر فيصل وناهد معاً، فبدا الماضي من خلالهما وكأنه المحصلة الثقافية للحاضر، وصولاً إلى النهاية التي تمثلت بنقل حدث الكارثة الطبيعية الحقيقية التي وقعت في جدة بحرفيته، وخلفت الخسائر الفادحة في الأرواح والممتلكات وشردت العديد من الأُسر. أما الإضافة الوحيدة إلى الحدث الواقعي، فكانت حين جعل الكاتب ناهداً في قلب الحدث بين الشباب والبنات الذين تطوعوا لمساعدة الناس. وتجسدت بذلك دنيوية النص وواقعيته من خلال تفاعلاته البشرية والثقافية. أما الربط بين الحدث الواقعي وشخصيات الرواية، فأتى حين فكرت ناهد في فيصل أثناء الكارثة: «ربما فاتك – فيصل – أن تكون موجوداً، لتحمل الكاميرا وتسجل المأساة»، فأي فيلم يمكن أن يضاهي الفيلم الواقعي، الذي لم يحتج إلى خدع تصويرية وإمكانات مادية هائلة لتنفيذه...؟. إلا أن فكرتها تلك لم تكن خيالية، فقد حضر فيصل إلى جدة كي يصور هول الفاجعة، إلا أنه لم يكن يتوقع أن تلعب الصدفة دورها ويرى ناهد وهي تتكلم عما أحدثه الطوفان في جدة، فلم يجد أمامه غير الهروب كي لا تراه، فقال في نفسه: «كانت الصدفة فادحة، وفوق قدراتي على الاحتمال، أو التخيل. بكيت وأنا ألعن زينب وتفاهتها». إلا أنها رأته فوصفته في نفسها: «حينما ذهب مهرولاً مثل قنفد شوكي يتدحرج... فهو بالفعل جثمان الآن، وعليّ أن أشيع هذا الرجل الميت. بينما عدت إلى الداخل أعارك طوفان الدمع في عيني. لم أبك عليه، وأما أبكي عليّ». كانت الدموع العامل المشترك بينهما في تلك اللحظات، إلا أن سببها كان مختلفاً، فعند فيصل كان ندماً على خسارة ناهد من أجل فتاة تافهة، أما عند ناهد، فكان على نفسها لا عليه! لم يتطور الحدث في الرواية، فبدت حركته باهتة، ولم يظهر تفاعله مع الشخصيات التي لم تحتج إلى شد الخيوط التي تؤدي إلى تكاثفه وتراصف جزيئاته، الأمر الذي أدّى إلى تباطؤ الحبكة، فلا تصعيد ولا تشويق ولا إيحاء ولا مفاجآت ولا إطلاق لخيال القارئ لأية تكهنات أو توقعات، وذلك لخلو الرواية من عنصر الخيال. وأخيراً لا بدّ من الوقوف عند ما كُتب على الغلاف الأخير للرواية: «ليس أمام فيصل، المخرج الشاب لأفلام سينمائية قصيرة، إلا رؤية هذا العالم الغريب عبر عدسة الكاميرا، حين يصبح العالم مجرد فيلم، هو أحد أبطاله»، ففي أي جزء من الرواية أطلّ فيصل على العالم عبر عدسة الكاميرا؟ ومتى أصبح العالم مجرد فيلم هو أحد أبطاله؟ أيكمن الجواب في الفصل الثامن من الرواية، حين تفوّق خيال الطبيعة بانتفاضتها على خيال فيصل المخرج، الذي لم تسعفه أفكاره في سبعة فصول من ابتكار قصة فيلمه القصير؟.

مشاركة :