كرسي الرئاسة التونسية أصبح اليوم معضلة.. فرغم محدودية الصلاحيات التي يمنحها الدستور التونسي للرئيس، استطاع الراحل الباجي قائد السبسي أن يمنح منصب الرئاسة قيمة رمزية ومعنوية كبيرة، مصعّبا المهمة على أي قادم جديد. لذلك لا غرابة في أن ينتهي بحث حركة “النهضة” عن العصفور النادر إلى طريق مسدودة. العصافير جميعها من النوع العادي المألوف، لا شيء فيها نادرا، على العكس تماما من الباجي، حيث لا شيء كان فيه مألوفا، ولا شيء فيه كان عاديا. حافظ قائد السبسي، عرف ثمن أن يعيش المرء في جلباب قامة سياسية مثل قامة الباجي، واليوم سياسيو تونس باتوا يعرفون ذلك. كان الباجي قائد السبسي رئيسا استثنائيا، في التجربة وفي الخبرة وفي العلاقات، وقبل كل ذلك كان رئيسا استثنائيا بقدرته على أن يصبح رئيسا للتونسيين، كل التونسيين. وليصبح هكذا، كان عليه أن يتعامل مع ابنه حافظ بحيادية، بوصفه واحدا من السياسيين المتصارعين على الساحة التونسية. أسد عجوز يرى شبله يتخبط ويخطئ، وبإرادة حديدية يسيطر على عواطفه. على الشبل أن يتعلم المشي والجري والصيد، من دون مساعدة مباشرة، فقط عين الأب تراقبه بسرية. مولود آخر، فطمه الباجي في صباه، هو حزب نداء تونس. فطمه قبل أن يحين أوان الفطام، وأخذ يراقبه وهو يتعثر ويرتكب الخطأ تلو الخطأ. كان الباجي يعلم، بحكمة الشيوخ، أن لا خيار آخر أمامه، إما أن يقوى المولود ويشتد عوده ويصلب، وإما أن يكبر ليصبح جسدا هزيلا لا ينفع معه علاج. أشفق على الباحثين عن طيور نادرة، أن يخيب مسعاهم، فالطيور النادرة لا تتكرر، وسبق لتونس أن شهدت ميلادها مرتين.. مرة مع الزعيم الحبيب بورقيبة، والثانية مع مرشح الزعامة، الباجي قائد السبسي. أمام راشد الغنوشي اليوم فرصة نادرة، ليكون هو العصفور النادر. سبق له أن امتلك الشجاعة ورضي العيش في ظل الباجي، حفاظا على مصلحة حزبه وعلى مصلحة تونس. واليوم أمامه فرصة إن أراد، أن يحمي تونس والتونسيين. ويثبت أن ربطة العنق والسروال خيار أحب إليه من العباءة، وأن لقب الأستاذ أحب إليه من لقب الشيخ، وأن الإسلام الليبرالي أحب إليه من الإسلام السياسي، وأهم من هذا كله أن ولاءه لتونس أعز على قلبه من أي ولاء آخر. يمكن للغنوشي بعد ذلك أن يتقدم مرشحا للرئاسة، ليس عن “النهضة”، ولكن عن التونسيين، كل التونسيين. أمامه فرصة تاريخية يصعب أن تتكرر ثانية، ليعلن أن فطام النهضة قد حان، وأن الجميع متساوون أمامه، لا فضل ليمين على يسار إلا بحب تونس. وضع الباجي قائد السبسي خلال فترة رئاسته معادلة صعبة، على من أراد شغل المنصب فك رموزها والعمل وفق تركيبتها.. لن يرضى التونسيون بغير ذلك. قد يدفع غياب العصفور النادر أيا من المرشحين إلى منصب الرئاسة، وهذا سيفرغ المنصب من أهميته، ويعود بتونس إلى المربع الأول، ليتكرر الحديث عن زجاجات البوخا، وعن سمك القاروص، المستهلك في قصر قرطاج.. القصر الذي تحول مع الباجي رمزا للكبرياء التونسي، والنجاح التونسي. لذلك لن يرضى التونسيون بغير العصفور النادر رئيسا.
مشاركة :