استنادا إلى تجارب التصوف السني وإسهاماته الكثيرة في خلق بيئة متسامحة، دفعت المملكة المغربية بمفكريها ومثقفيها في السنوات الأخيرة إلى وجوب تقوية هذا المكسب الحضاري وذلك من أجل تصفية الشوائب العالقة بأذهان البعض من المنجرّين وراء أدبيات وخطابات جماعات الإسلام السياسي بكل تفريعاته، لا في المغرب فحسب بل طرح هذه الرؤية على بقية شعوب المنطقة أيضا. في هذا الصدد، دعا عدد من الأساتذة والفقهاء والباحثين المغاربة، الاثنين الماضي بمدرسة أكجكال العتيقة (جماعة أصبويا بإقليم سيدي إفني)، إلى ضرورة الاهتمام بتراث التصوف السني في المنطقة، وترسيخ قيم التسامح ونشر ثوابت المملكة المغربية لدى طلبة المدارس العتيقة، وذلك خلال ندوة نظمتها المدرسة بتنسيق مع عمالة الإقليم والمندوبية الإقليمية للشؤون الإسلامية والمجلس العلمي المحلي تحت عنوان “التصوف السني بالمنطقة، التاريخ والإشعاع”. وسلط هؤلاء الباحثون خلال هذه الندوة، الخامسة من نوعها التي تنظمها المدرسة، الضوء على تاريخ التصوف السني بالمنطقة وبالجنوب المغربي عموما، معتبرين أن تاريخ الحضور الصوفي السني بمنطقة أصبويا وإقليم سيدي إفني والصحراء المغربية بوجه عام، تاريخ “غني” يستلزم المزيد من الاهتمام وتسليط الضوء عليه. وليست هذه المرة الأولى التي يجتمع فيها عدد من الباحثين والمختصين بالفكر الإسلامي في مختلف محافظات المملكة المغربية لإصدار نداءات تتمحور جلها حول إعادة البريق للتصوف السني وجعله أهم بديل حضاري يكون قادرا على مقاومة التطرف من خلال زرع قيم الأخوة والاحترام والتسامح. أساتذة وفقهاء وباحثون مغاربة، يصدرون نداء للمنطقة فحواه الاهتمام بتراث التصوف السني لترسيخ قيم التسامح من الناحية التاريخية، يتبيّن أن للتصوف المغربي إسهامات كبيرة في مجمل التحولات الفكرية والحضارية والمجتمعية التي عرفها المغرب عبر تاريخه الحافل بالمنجزات، حيث شكل التصوف رصيدا ضخما من التراث اللامادي للمملكة، ما جعل هذه التجربة المغربية جديرة بالاهتمام عبر استثمار ما يكتنزه التصوف من طاقات أخلاقية وجمالية في مواجهة تحديات العصر وزحف التيارات المادية وأزمة الأخلاق في الكثير من المجتمعات المعاصرة. وعلى قاعدة هذه الزاوية، لا ينفك العديد من الباحثين المغاربة عن إبراز قيمة التصوف السني على وجه التحديد بما عُرف عنه من قيم الوسطية والاعتدال ونشر المحبة والتسامح وقبول الاختلاف. وبإجماع الباحثين، فإن التصوف السني يمكن أن يشكل في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ شعوب المنطقة مدخلا لبناء مجتمع أخلاقي وكيان حضاري متجدد ومنتج لقيم النهوض والمواطنة. فالتصوف السني وفق رؤية المغرب يحافظ على ثوابت الأمة الدينية والتاريخية، وفي نفس الوقت هو قادر على مسايرة العصر في جميع متغيراته وتطوراته. ويجمع جل المهتمين بهذا المبحث الروحي والفكري، على حد السواء، على أن أهل التصوف السني بالمغرب لم ينشغلوا بالحقائق وترك العلائق، بل سعوا إلى إفادة الخلائق ونفعهم، ومن ثم فإن تجليات تفاعل المغاربة مع قضايا مجتمعاتهم متعددة، وتظهر أكثر في السلوكات العملية، وهو ما يؤكد تبني التصوف السني المغربي لمنهج القرب اقتناعا واختيارا، لا اضطرارا وتقليدا، ذلك أن الاحتجاج بالعمل أقوى في الدلالة من الاحتجاج بالنصوص، لأن العمل لا يقبل تأويلا. وفي هذا السياق قال أبوبكر إيشو، أستاذ بالمدرسة العتيقة أكجكال، في الندوة المذكورة إن المشاركين، من أساتذة وباحثين مهتمين بهذا الموضوع، أبرزوا حاجة الحياة المعاصرة، اليوم، إلى التصوف، وذلك بالتركيز على قراءة معالم تاريخ التربية السلوكية في التجربة الصوفية بالصحراء المغربية، والتركيز أيضا على أهمية التصوف في ضمان الأمن الروحي. وأضاف الأستاذ في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء أن الندوة حاولت تسليط الضوء على تاريخ الطرق الصوفية بإقليم سيدي إفني وكذلك على العلاقة التكاملية بين الفقه والتصوف، مذكرا في هذا السياق أن الندوة نظمت في إطار احتفالات الشعب المغربي بالذكرى الـ20 لعيد العرش المجيد، وبمناسبة اختتام المواسم السنوية الدينية بقبيلة أصبويا، وتزامنا مع الموسم السنوي للولي الصالح سيدي أمبارك أكجكال. من جهته أكد البشير الهرجاني، عضو المجلس العلمي المحلي لسيدي إفني، في تصريح مشابه أن الندوة كانت مناسبة للتأكيد على أهمية التصوف السني المبني على التسامح وحسن الخلق وتقبل الآخر. وذكّر بأن تاريخ الطرق الصوفية في الجنوب المغربي “تاريخ عريق”، حيث كانت أبرز الطرق الطريقة الناصرية والطريقة التيجانية والطريقة الدرقاوية. واختتمت الندوة، التي حضرها عدد من الفقهاء والشيوخ والطلبة وأعيان وسكان قبيلة أصبويا، بقراءة شعرية وتوزيع الشواهد التقديرية على المشاركين.يذكر أن المدرسة العتيقة أكجكال لها إشعاع علمي كبير تجاوز حدود الوطن، وتضم حاليا أكثر من 230 طالبا يدرسون بالمؤسسة ضمنهم 16 طالبا أفريقيا، ينحدرون من دولة غينيا كوناكري. وتستعد مدرسة أكجكال، وهي الوحيدة في المنطقة التي تستقبل الطلبة الأفارقة، هذه السنة لاستقبال فوج جديد من هؤلاء لمتابعة تحصيلهم العلمي. وتتوفر هذه المؤسسة العلمية على إمكانيات وقدرة على إيواء الطلبة والسهر على توفير كل الشروط اللازمة لهم للدراسة، من وسائل نقل وأطر إدارية وتربوية تتمتّع بكفاءات عالية، إضافة إلى السهر على سلامتهم الصحية. وفي إطار هذه الرؤية، يذكر التاريخ أن التصوف السني في منطقة شمال أفريقيا وتحديدا في المملكة المغربية يتميز بتاريخ حافل بالأمجاد، حيث كانت له مجهودات كبيرة خلال السنوات الأولى للإسلام، إذ رفع هذا المذهب الروحي راية الإسلام لكن دون رفع السلاح أو إراقة الدماء أو إكراه الناس على الدين. وقد دافع التصوف السني في مختلف مراحله عن الإسلام بكل تسامح، فأينما حل الصوفيون كانوا يشيّدون القلاع والزوايا لنشر الدين والعلم ورعاية الفضيلة. ومن أبرز خصائص خدمة المتصوفين للدين الإسلامي مقارنة بالجماعات المتطرفة، أنهم كانوا ينشرون الإسلام بأساليب سلمية كالتجارة والتعليم، ويرسلون النجباء من تلامذتهم على نفقة الزوايا، إلى مدارس بطرابلس في ليبيا أو القيروان بتونس، وجامع القرويين بفاس، وكذلك الجامع الأزهر بمصر وغيرها. واستمر عطاء التصوف السني وفق المؤرخين إلى العصر الراهن عبر تشجيع الناشئة على حفظ القرآن الكريم والعناية بتعليم الأيتام والمحرومين، وكذلك تخصيص مساعدات مادية للأسر الفقيرة، والسهر على تنظيم قوافل طبية، إلى غير ذلك من الجهود التي تعود بالنفع العام على عموم المغاربة.
مشاركة :