وراء النجاح قصة، وعمل دؤوب، وطموح، وتخطيط، ورسم أهداف، ووراء العمل الناجح محفّزات تدفع المرء إلى الإنتاج المتواصل دون كلل ولا ملل. والدكتور عبدالرحمن بن صالح الشبيلي نموذج تتجلى فيه هذه السمات بكل وضوح، فلقد كانت بدايته موظفًا في وزارة الإعلام، ولكنها وظيفة فنية إبداعية (مذيع)؛ مما أتاح له أن يترقى ويكتسب شهرة واسعة وهو في سنواته الأولى في العمل، ويبدو أنه منذ البدء في العمل الوظيفي رسم خطة للعمل الجاد تتخذ طريقين: الأول: إثبات الوجود في العمل الموكل له: معدًا ومذيعًا إذاعيًا وتلفزيونيًا فأنتج برامج عديدة جاذبة ومؤثرة وتاريخية مع شخصيات بارزة، وهو ما وسّع نطاق علاقاته الشخصية، وبما يتناسب مع شخصيته الاجتماعية الاندماجية، والثاني: وضع العين على التدرج العلمي وعدم الاكتفاء بالشهادة الجامعية، وألا يقنع بأقل من الدكتوراه، وهو ما كان إذ ابتعثه الوزارة أيام معالي الشيخ جميل الحجيلان؛ للحصول على الماجستير والدكتوراه، وعندما عاد كانت المناصب في الوزارة وفي غيرها بانتظاره، فأكسبته خبرات عديدة ومنحته علاقات واسعة تضاف إلى رصيده السابق، ولم يجد الوقت للـتأليف إذ شُغل بالأعمال الرسمية واللجان ونحوها، مع إسهام كتابي بالمقالة بين الفينة والأخرى. وربما تكون وفاته قريبه السفير محمد الحمد الشبيلي (أبو سليمان) رحمه الله عام 1409هـ/1988م هي من أوقدت في نفسه رغبة التأليف، وربما حفّزه بعض زملائه وأصدقائه، فبدأ بجمع المعلومات والصور والمقالات، ودفع بالكتاب إلى المطابع غير متعجّل على صدوره إذ تأخر ولم يصدر إلا في عام 1414هـ/1994م عن مكتبة العبيكان، وهو ما يدل على أناته في الـتأليف ورغبته في الاستقصاء والدقة والمراجعة، مع التفكير في خدمة الكتاب قبل الطبع وبعده، فاختار مكتبة العبيكان ناشرة للكتاب، ثم رتّب لحفل كبير لتدشينه في فندق الماريوت بالرياض بحضور نخبة من الدبلوماسيين والمثقفين وعارفي أبي سليمان ومحبيه، وهذا التدشين أو التوقيع تقليد جديد على المجتمع السعودي وقت ذاك، ولم يعرف كما هو اليوم في معارض الكتب، ولم يكن معهودًا إطلاقًا قبل ربع قرن الاحتفاء بصدور الكتاب كما خطّط له أبو طلال ونفّذه، وهذه في نظري تعدّ أولية له وريادة في التخطيط لتسويق الكتاب والاحتفاء به في المجتمع السعودي الذي لم يألف إلا تدشين المشروعات وافتتاحها! وكان أن وجّه الدعوات لمعظم وسائل الإعلام، ومنها إذاعة الرياض حينما كان الدكتور عائض الردّادي مديرًا عامًا لها، فاختارني لهذه المهمة؛ لأنه أدرك ميولي للبرامج الثقافية، وكنت وقتها أحضّر درجة الماجستير في الأدب والنقد، فذهبت إلى الفندق وحضرت حفل التدشين مذهولاً في داخلي من هذا الحفل غير العادي إذ كنت في مناسبات عديدة سابقة أكلّف بإعداد لقاءات لمناسبات رسمية ترتبط بافتتاح مؤتمر أو ندوة أو مستشفى أو كلية أو طريق ونحوها، ولكن أن يكون الحفل من ألفه إلى يائه احتفاء بكتاب فقط فكان هذا مثار دهشتي واستغرابي؛ لكون ذلك أول حدث أراه يتعلق بتوقيع كتاب فقط، ولا شيء غير ذلك، وهكذا تكون الريادة والسبق لأبي طلال في هذا الحقل. وبعد النجاح الكبير الذي حقّقه هذا الحفل وانتشار الكتاب على نطاق واسع ووصوله إلى عدد كبير من المثقفين والأدباء والقراء بشكل عام، أقيمت ندوة عنه في إثنينية الشيخ عثمان الصالح - رحمه الله، ووزع الكتاب على الحضور؛ مما وسّع من دائرة نجاحه ومقروئيته؛ وهو ما أشعل في نظري فتيل الإبداع بقوة لدى الدكتور عبدالرحمن الشبيلي، وخاصة بعد تخففه من بعض اللجان والأعمال الرسمية ثم تقاعده بعد ذلك فاتجه بكل قدراته ووظّف وقته بشكل شبه كامل للقراءة وجمع المعلومات والتأليف، وكان كل كتاب يقود بمعلوماته وفكرته إلى كتاب آخر، ومن الأمثلة تشابه بعض العناوين مثل: (إعلام وأعلام، وأعلام بلا إعلام)، كما نلحظ أن مفردة (الإعلام) حاضرة في معظم مؤلفاته، ومنها غير الكتابين السابقين: نحو إعلام أفضل، والإعلام في المملكة العربية السعودية، والملك عبدالعزيز والإعلام، وهذا ليس بالغريب ولا المستغرب إذ قضى شطرًا من حياته في وزارة الإعلام، وحاز شهادته العليا في الإعلام، وكان عضوًا في المجلس الأعلى للإعلام، وعمل في لجان تتصل بالثقافة والإعلام في مجلس الشورى، وعمل كذلك مديرًا عامًا لمؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر، ويعد ــ استنادًا إلى كل ذلك ــ مؤرّخ الإعلام السعودي الأبرز والأهم، وتعد كتبه مراجع موثوقة في التأريخ للإعلام السعودي: صحافة، وإذاعة وتلفازاً. وتوالت مؤلفاته العديدة: يؤرّخ فيها لإعلام بلده، ويترجم فيها لبعض الشخصيات المهمة التي غفل عنها الإعلام، ويلتفت إلى منجزاته في بعض البرامج الثقافية ويحوّلها إلى كتب، وختم مؤلفاته بسيرته الذاتية «مشيناها: حكاية ذات» التي جاءت ختامًا لرصيده الكبير من المؤلفات المختلفة، وكأنه يودّعنا بهذه السيرة ويقول: هذه كتبي، وهذه حياتي! ولم يكتفِ بهذه المؤلفات وحسب، بل خصّص جزءًا من وقته لخدمة أحد روادنا الكبار، وهو العلاّمة الشيخ حمد الجاسر، فأشرف على «من سوانح الذكريات» وراجعها، وأخرج له بعض الكتب منها: «دراسات وبحوث في تاريخ الملك عبدالعزيز»، و«في الرثاء وسير المرثيين»، وغيرها من مؤلفات الشيخ حمد الجاسر - رحمهما الله. لا تفسير للحضور الفعّال للدكتور الشبيلي - رحمه الله- في المشهد الثقافي، إلا أنه كان يستثمر الوقت بدقة ولا يضيع وقته سدى، ومن هنا رأينا له تعاونًا مع جهات عديدة مثل: مركز حمد الجاسر الثقافي، ودارة الملك عبدالعزيز، والأندية الأدبية، ومكتبة الملك عبدالعزيز العامة، ومركز عبدالرحمن السديري الثقافي بالجوف، وغيرها من الجهات العديدة التي يصعب حصرها. ولم تكن الدولة بغافلة عن هذه المنجزات التي نهض بها الدكتور عبدالرحمن بن صالح الشبيلي، فكُرّم في المهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية) عام 1438هـ، ومنحه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان - حفظه الله- وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى، كما حصل على جائزة الملك سلمان لخدمة التاريخ الشفوي وتوثيقه وبحوث الجزيرة العربية التي تنظمها دارة الملك عبدالعزيز. والآن وقد مضى الدكتور عبدالرحمن الشبيلي إلى ربه، فإننا ندعو له بالرحمة والمغفرة، ونذكّر المؤسسات العلمية والمؤسّسات الثقافية والمراكز المتخصّصة والمؤسّسات الصحفية ووزارة الإعلام والجهات الإعلامية بشكل عام مثل: هيئة الصحفيين وجمعية (إعلاميون) وغيرها بواجبها تجاه الفقيد، إذْ يجدر بها أن تنظّم ندوات عنه وعن جهوده وحياته، وأن تقرّ رسائل جامعية عن جوانب من إنتاجه الغزيز، وخاصة في التأريخ للأشخاص وفي التأريخ للإعلام، وأن تنظّم محاضرات عنه لطلاب الإعلام في مرحلتي البكالوريوس وفي الدراسات العليا، فهو من النماذج المضيئة الناجحة التي تستحق أن تكون مثالاً يحتذى. رحم الله الفقيد الدكتور عبدالرحمن بن صالح الشبيلي رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته. * نائب رئيس مجلس إدارة جمعية الأدب العربي رئيس مجلس إدارة النادي الأدبي بالرياض سابقًا
مشاركة :