جاء إلى الوزارة الأكثر أهمية في بلد يمثل للعالم "قلب الإسلام والمسلمين". هدفه الأول أن يجعل الحج ذكيًّا، وتقديم الخدمات إلكترونيًّا. يريد أن يحصي خطوات الحجاج، ونبض قلوبهم أيضًا. يريد أن يحمل عنهم حقائبهم، وكل ما يحتاجون إليه من خدمات؛ ليتفرغوا لأداء نسكهم. معادلة قاسية، تبدو معقدة بسبب اختلاف ثقافات الحجاج وطبائعهم ومستويات تعليمهم.. وفي المقابل تتطلب أيضًا عقولاً ذكية، لا تجيد التعامل مع التقنيات الإلكترونية فحسب، بل تستطيع توظيف الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته لخدمة الحجاج أيضًا. في خيمته في مشعر عرفات يبدو وزير الحج والعمرة، الدكتور محمد صالح بنتن، وكأنه ليس لديه عمل شاق؛ يمسك بجهاز لاسلكي، وجوال محمول، وفي يده سبحة لا تتوقف عن الدوران تسبيحًا وتهليلاً وتكبيرًا. خلال كل ١٠ دقائق يمسك جهازًا محمولاً، اتضح لي أنه يتلقى من خلاله تقارير لحظية فورية من أنظمة تقنية، ترصد كل شاردة وواردة في سماء وأرض المشاعر المقدسة ومدن الحج. إن هذه اللحظات هي قطف ثمار عمل عام كامل، يبدأ مع نهاية موسم الحج في حركة لا تهدأ، وفريق عمل لا يتثاءب. اقتربتُ منه فقال لي: "كل شيء أصبح لدينا ذكيًّا، حتى طرقات الحجاج غيَّرنا طبقة الأسفلت السوداء فيها بأخرى ملونة؛ فخفَّضنا الحرارة ١٠ درجات مئوية بمشاركة علماء يابانيين. طموحنا أن نقرأ كل احتياجات الحجاج إلكترونيًّا، ونوفرها لهم قبل أن تطأ أقدامهم أرض الحرمين الشريفين. لقد تجاوزت وزارة الحج والعمرة مرحلة تقديم الخدمات إلكترونيًّا، وهي الآن تستثمر في أنظمة وبرامج الذكاء الاصطناعي الأكثر تطورًا على مستوى العالم. سنعرف قريبًا ما نوع الطعام المفضل لكل حاج؟ وما هي ساعة نومه؟ سنعرف متى يحتاج لتناول الدواء والغذاء؟ سنربطه بأسرته، ونجعلهم يتلقون رسائل دورية عن صحته وسلامته وأجواء نسكه. طموحنا أن يكتفي الحاج بسوار إلكتروني أو سماعة في أذنه، ويتحرك بها، ويطلب كل ما يريد لتصله الخدمة أينما كان، وفي الوقت المناسب، من خلال التقنية وأنظمة الذكاء الاصطناعي. سنتحدث إلكترونيًّا مع كل حاج من جميع الجنسيات بلغاتهم المختلفة. كل ذلك سيتحقق قريبًا". علقتُ قائلاً: "يتطلب ذلك عقولاً وتجهيزات ضخمة". فرد الوزير: "الوطن يمتلك كفاءات وعقولاً بشرية مميزة. هذا الوطن بُني طوال تاريخه بعزيمة أبنائه. الدولة - رعاها الله - استثمرت في أبنائها، واليوم لدينا عقول بشرية، تخرجت في أرقى جامعات العالم. أما الإمكانات والتجهيزات فقد وفرها سيدي خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - وسمو ولي عهده الأمين. إذًا، ليس لنا عذر بعد اليوم". أعرف الدكتور محمد طاهر بن صالح بنتن وزير الحج والعمرة منذ أكثر من ٢٠ عامًا. لديه عزيمة لا تفتر، يسبقها عقل ذكي بامتياز؛ فهو بروفيسور في علوم الحاسب الآلي، وهو مهندس متمرس.. إنه ببساطة وزير "محنك"، "عركته" الحياة بأنيابها.. لقد أدمت أقدامه صخور جبل الرحمة بما يكفي منذ أن ألقى به أصحابه في غياهب الجب في بئر في منطقة العابدية ضواحي مكة المكرمة قبل ٥٥ عامًا. في تلك الفترة كانت منطقة العابدية التي أصبحت الآن مقرًّا لجامعة أم القرى متنزهًا لأهالي مكة المكرمة؛ يفدون إليها بأبنائهم. في تلك الفترة كان الوزير يريد أن ينزل إلى البئر متدليًا بقطعة قماش قبل أن يهوي إلى القاع. قال لي الوزير: "ضمن جهودنا في تطبيق التقنية أصدرنا هذا العام أكثر من 1.8 مليون تأشيرة حج إلكترونيًّا. لن تجد حاجًّا أمام سفارات السعودية يطلب تأشيرة حج أو عمرة؛ بضغطة زر يحصل عليها. ومع شركائنا في وزارة الداخلية أصبحنا في عدد من مطارات العالم لنقدم الخدمات للحجاج في بلدهم ضمن ما يعرف بمبادرة طريق مكة المكرمة. حملنا حقائب الحجاج، وأوصلناها إلى مقار سكنهم في مكة المكرمة والمدينة المنورة وفقًا لنظام نقل لوجستي دقيق ومنضبط. وقريبًا سيشاهد الحاج سكنه وسريره وغرفته والفندق الذي سيسكن فيه قبل أن يصل إلى السعودية. سيتعرف على وسيلة النقل التي ستستقبله في المطار، وتوصله إلى فندقه. يجب ألا نترك أي شيء للمصادفة.. كل شيء يجب أن يكون مخططًا له بعناية فائقة". طموح الوزير المخضرم الذي أتى إلى الوزارة قبل ٢٠ عامًا وكيلاً لها، ومعنيًّا بشؤون العمرة؛ فأسس ما يُعرف اليوم بنظام العمرة الذكي، لا حدود له.. ثم انتقل إلى المؤسسة العامة للبريد؛ ليُحدث نقلة كبرى من مؤسسة تعتمد في مواردها على الدولة إلى مؤسسة تضخ سنويًّا مئات الملايين أرباحًا في خزانة الدولة. سألته عن مستوى التنسيق لأتمتة الحج فأجاب: "يؤدي مركز المعلومات الوطني في وزارة الداخلية دورًا محوريًّا في ذلك؛ فهو المنصة التي نودع فيها كل معلوماتنا.. إنه قلب الوطن الإلكتروني. إن شبكات الوزارة الذكية تعمل فوق الأرض وتحت الأرض بدقة متناهية. إننا نراقب النظافة، والخدمات والمركبات وتدفقات الحشود، ونمنع تصادمها، ونحسب كم تحتاج كل حافلة من الوقت في حركتها الترددية بكاميرات حرارية، ترصد أدق الأشياء، وتحللها، وترسل إشعارات إلى الجهات ذات العلاقة، وتوثق المشكلة والحل بكل حرفية. إنها التقنية، مستقبل الحج الأكثر راحة وأمنًا". الدكتور محمد صالح بن طاهر بنتن عقل إلكتروني بامتياز؛ فهو حائز جوائز عالمية عدة، منها: جائزة أفضل مدير تقني في الشرق الأوسط العام 2002، وجائزة أفضل مدير تنفيذي في الشرق الأوسط العام 2008، كما أنه حاصل على دكتوراه في هندسة الحاسب عام 1988 من جامعة كولورادو بولدر في الولايات المتحدة الأمريكية، وماجستير في الهندسة الكهربائية عام 1981 من جامعة الملك فهد للبترول والمعادن في السعودية، وبكالوريوس في الهندسة الكهربائية عام 1978 من الجامعة ذاتها. سألته عن رؤية الوزارة للتوافق مع رؤية الوطن ٢٠٣٠ فأجاب: "حظيت الوزارة بأن تكون مسؤولة عن برنامج خدمة ضيوف الرحمن، إحدى مبادرات رؤية السعودية ٢٠٣٠. لقد تضمن هذا البرنامج مشاريع بأكثر من ١٠٠ مليار ريال. الوزارة تسير بشكل متقدم في البرنامج، ولكن كل ما ترون يعتبر قليلاً من كثير. برامجنا إلكترونية ذكية، ومن خلال التقنية سيكون الحج أسهل وأكثر سلاسة وأمنًا". قلت له: إن أصعب مراحل الحج هو تقديم الخدمات، والنقل، فكيف ستتغلبون عليها؟ فأجاب: "ندرس مع كبرى الشركات في العالم حلولاً ذكية وتطبيقات متطورة؛ لنجعل من رحلة الحج تجربة لا تُنسى. وقريبًا سنبهر العالم بأننا طورنا برامج متقدمة، لا يوجد مثيل لها في أي مكان بالعالم. نحن هنا محظوظون بخدمة ضيوف الرحمن، ومحظوظون أيضًا بدعم قيادة هذا البلد المبارك، الذين يولون راحة وسلامة وأمن حجاج بيت الله الحرام جل عنايتهم". عمليًّا، بحسب قريبين منه يقولون إنه يكون موجودًا في مكتبه حتى الساعة الثانية عشرة ليلاً، يلتقي فرق العمل الكثيرة، ويحضر جلسات نقاش واسعة.. لديه قدرة كبيرة على الاستماع؛ فهو لا يمل بسرعة، ولا يغضب بسرعة؛ هدوؤه أعطاه فرصة للتأمل والتدبر. إنسانيًّا، يُعرف الدكتور محمد طاهر بن صالح بنتن بأنه "جابر الخواطر"؛ فهو لا يترك مناسبة إنسانية إلا ويكون فيها عطفًا ومواساة، لكنه في المقابل صارم في عمله لدرجة مرهقة. إن فلسفته تقول إن كل من أوكل له شرف خدمة الحجاج والمعتمرين يجب أن يؤدِّي كما ينبغي. الأخطاء التي ترصد تعالج فورًا، لكن من أخطأ يجب أن يحاسب؛ فسمعة الوطن خط أحمر؛ ليست مجالاً للتراخي أو التهاون أو التقصير.
مشاركة :