رصدت ثلاث أطروحات بخصوص تفسير نمو الناتج المحلي للقطاع الخاص بالربع الأول من العام الجاري، والذي حقق نمواً بمعدل يتجاوز 2 % على أساس المقارنة السنوية، مسجلاً أعلى نمو بين القطاعات التنظيمية الأخرى المكونة للناتج المحلي الإجمالي. يقول صاحب الطرح الأول: إن نمو القطاع الخاص يعزى بصورة كبيرة إلى تقليص الشركات لتكاليف أجور العمالة الأجنبية بعد أن غادر منها نحو مليون عامل خلال العام الماضي! أما أصحاب الطرح الثاني، فهم على النقيض من صاحب الطرح الأول، إذ يرون استحالة النمو بسبب مغادرة هذا العدد الكبير من العمالة، ويلمحون إلى أن الإحصاءات يعتريها شيء من عدم الوضوح! أصحاب الطرح الثالث ليس لديهم تفسير واضح عن كيفية حدوث النمو، فهم سرديون أكثر من كونهم محللين اقتصاديين بالفعل، فالنمو حسب طرحهم حصل؛ لأن الاقتصاد متين والسياسات الحكومية حكيمة وفعالة، أما كيف حدث النمو فلا يقدمون أية إجابة مفيدة عنه. هكذا استقبل الكثيرون أداء القطاع الخاص بالربع الأول، بمن فيهم كثير من الكتاب في الشأن الاقتصادي، لكن تفسير هذا النمو قد يكون أعقد مما يظنه الكثيرون. ولعل القارئ الكريم يتساءل في البداية عن فائدة الكتابة في هذا الموضوع. والإجابة تكمن في أن حدوث نمو جيد في ناتج القطاع الخاص يعد في العادة خبراً يستبشر به الجميع كونه يوصف بأنه مؤشر يبعث على التفاؤل بشأن عودة التعافي لبيئة الأعمال، بعد أن تعرضت هذه البيئة لضغوط كبيرة من قبل الإجراءات التصحيحية في الفترة الماضية، ولذلك من المهم تقييم وفهم أسباب هذا النمو. في هذا الطرح.. لا أعلق على طبيعة النمو لا سلباً ولا إيجاباً، بل تقديم نظرة تحليلية تغوص قليلاً في فهم مكونات الناتج من خلال الاستعانة بأسس الحسابات القومية للاقتصاد، وسيتضح من خلاله أن تفسير نمو القطاع الخاص بانخفاض بند أجور العمالة الأجنبية فيه (على سبيل المثال) في أقل وصف له "لا أساس له من الصحة". ولكن في نفس الوقت، قد تتضاعف حيرتنا بعد قراءة الموضوع، حيث سيتضح معنا أن تفسير النمو أعقد مما نتصور، فهو أشبه باللغز الذي نعرف بعض ملامحه ولكن مفاتيح حله ليست كلها في متناول أيدينا. البداية هي مع فهم كيفية حساب حجم الاقتصاد، حيث هناك عدة مداخل لحسابه، أكثرها شهرة هو الناتج المحلي الإجمالي (GDP) والناتج المحلي الإجمالي لا يحسب بطريقة واحدة، بل هناك ثلاث طرق هي: طريقة الدخل، طريقة الإنفاق، وطريقة الإنتاج.. عملياً؛ تقوم الجهات الإحصائية باختيار طريقة أو أكثر من طرق حساب الناتج لاعتبارات هي أعلم بها عند حساب الناتج للأنشطة والقطاعات الاقتصادية. وبالمناسبة، حسابات الناتج بهذه الطرق ليست من اجتهاد الهيئات الإحصائية الوطنية، حيث إن هناك دليلاً عالمياً مفصلاً لهذه الحسابات تصدره الأمم المتحدة وتطبقه الدول يسمى نظام الحسابات القومية. نظرياً، يجب أن تؤدي كل الطرق إلى الحصول على نتيجة واحدة، ولذلك إذا حصلنا على بيانات تساعدنا بشكل تقريبي في تشخيص النمو بإحدى هذه الطرق فسنتوصل إلى فهم كيفية حدوث نمو ناتج القطاع الخاص بصورة تقريبية. لن أخوض في كيفية حساب كل طريقة، لذا سأركز على طريقة الدخل لأسباب موضوعية كون الطرق الأخرى لا يمكن استخدامها هنا بسبب عدم توفر بيانات كافية تساعدنا في تلمس الطريق. يتكون الناتج المحلي الإجمالي حسب طريقة الدخل من جمع العناصر التالية: الأرباح، إجمالي التعويضات للموظفين، الإيجارات، الفوائد، استهلاك رأس المال الثابت، وأخيراً الضرائب على الإنتاج مخصوماً منها الإعانات الحكومية. سنناقش كل عنصر من هذه العناصر على حدة. لا يتوفر لدينا مصدر عن أوضاع الأرباح للقطاع الخاص أفضل من نتائج الشركات المدرجة بالسوق المالية. صحيح أن عدد الشركات المدرجة لا يمثل إلا نسبة صغيرة جداً من عدد المنشآت التي يتم حسابها في الناتج المحلي للقطاع الخاص، ولكن من الممكن اعتبارها مرآة جيدة لأداء منشآت القطاع الخاص، وبالتالي يجوز الاستئناس بنتائجها المالية عند التحليل. وفقاً لنتائج الشركات بالسوق المالية، فقد وصلت نسبة التراجع السنوي للأرباح على مستوى السوق إلى 15.7 % في الربع الأول من العام 2019. إن ذلك يعني صعوبة تصور أن الأرباح ساهمت في زيادة النمو للقطاع الخاص للفترة المذكورة، والأرجح أن التراجع العام للأرباح خفض من مساهمته الإيجابية في دفع نمو القطاع الخاص. العنصر الثاني يعد ثاني أهم مكونات الناتج المحلي الإجمالي، وهو إجمالي الأجور والتعويضات للعاملين الذي يمثل عادة ربع أو ثلث إجمالي الناتج المحلي. تفيد إحصاءات مسح القوى العاملة بأن إجمالي عدد العاملين بالقطاع الخاص انخفض بأكثر من 11 % في الربع الأول من 2019 مقارنة مع نظيره في 2018، وهذه النسبة تمثل أكثر من مليون و60 ألف عامل، يبلغ عدد السعوديين منهم أكثر من 63 ألف عامل مقابل نحو 998 ألف عامل غير سعودي. ما علاقة هذا بنمو ناتج القطاع الخاص؟ العلاقة وثيقة جداً، حيث إن خروج أكثر من مليون عامل يشير إلى أن إجمالي الأجور المدفوعة من قبل القطاع الخاص قد انخفض، وهذا يعني بشكل مباشر انخفاض الناتج المحلي للقطاع الخاص بمقدار أجور وتعويضات العمالة التي غادرته. وبإجراء حسابات بسيطة باستخدام ما يتوفر من بيانات مثل متوسط الأجور للعاملين بالقطاع الخاص نصل إلى نتيجة تقديرية مفادها أن ناتج القطاع الخاص ربما فقد أكثر من 13.5 مليار ريال على الأقل في الربع الأول من 2019. أما بخصوص الإيجارات، فقد أوضحت جميع مؤشرات التضخم ذات العلاقة بالعقارات سواء في مؤشر الرقم القياسي لأسعار المستهلكين أو الرقم القياسي لأسعار العقارات إلى وجود تراجع واضح في الأسعار، وبالتالي من المستبعد تماماً أن يكون للإيجارات أية مساهمة في رفع نمو ناتج القطاع الخاص. على الجانب الآخر، ارتفع معدل الفائدة (السايبور) خلال الفترة بمقدار الضعف، وزادت قروض المصارف للقطاع الخاص بمقدار يتجاوز 42 مليار ريال. ولكن في الحقيقة يصعب تقدير دور هذه الزيادة في أداء ناتج القطاع الخاص. ربما يكون لها دور ما، ولكني أرجح أنه لم يكن كبيراً جداً ليفسر اتجاه النمو في الناتج، ذلك أن إجمالي الناتج المحلي لأنشطة الخدمات المالية يتراوح في حدود 10 % من ناتج القطاع الخاص. ولا تتوفر أية بيانات أو معلومات عامة عن استهلاك رأس المال الثابت في القطاع الخاص، وأقصى ما نستطيع قوله هنا هو أنه بافتراض أن لهذا العنصر دوراً في رفع نمو ناتج القطاع الخاص، فإن ذلك يعني أن الأصول الثابتة في القطاع الخاص قد فقدت الكثير من قيمتها إما نتيجة لمرور الزمن أو لاستهلاكها بكثافة في عمليات الإنتاج مما يرفع من مقدار استهلاك رأس المال الثابت، أو أنه حصل انخفاض في قيمة هذه الأصول بسبب تراجع الأسعار والطلب مما أدى إلى رفع قيمة استهلاكها. يبقى لدينا العنصران الأخيران وهما الضرائب على الإنتاج (أو الضرائب غير المباشرة) والإعانات الحكومية. وبالرغم من أننا لا نملك تفصيلاً للضرائب التي يجب أن تحسب في قيمة الناتج، إلا أن بيانات الميزانية تكفي للحصول على تصور واضح بهذا الخصوص. فقد ارتفعت الضرائب غير المباشرة في الربع الأول من 2019 بنسبة 69 % لتصل إلى نحو 44.6 مليار ريال مقارنة مع 26.4 مليار ريال في الربع الأول من 2018، أي بزيادة تتجاوز 18 مليار ريال. في المقابل، ارتفعت الإعانات الحكومية خلال نفس الفترة إلى 10.3 مليارات ريال، بزيادة قدرها 7.3 مليارات ريال. وهذا يعني أن صافي الضرائب غير المباشرة (الفارق بين الضرائب غير المباشرة والإعانات) يتجاوز 34.3 مليار ريال. هذا المقدار يمثل إضافة صافية لناتج القطاع الخاص، وهو بالمناسبة أعلى من نظيره في الربع الأول من 2018 بأكثر من 46 %. وبالتالي، فإني أستطيع الجزم بأن صافي الضرائب غير المباشرة كانت أكثر العناصر مساهمة في نمو الناتج المحلي للقطاع الخاص في الربع الأول من 2019. نستنتج من هذا التحليل أن فهم وتفسير النمو وخاصة للقطاع الخاص عملية شائكة لمن لا يملك معرفة وبيانات كافية عن أسس الحسابات القومية، كما أن النقاش فيها يتضمن تفاصيل نظرية كثيرة تجنبتها إما لأن المجال لا يسمح بذلك، أو لأنه ليس عندي اطلاع كافٍ على كيفية تنفيذها بصورة عملية. الجهة الوحيدة التي لديها اطلاع تام بتفاصيل الجوانب التطبيقية بهذا الموضوع هي الهيئة العامة للإحصاء. ختاماً، أرى أن جميع الأطروحات التي أشرت إليها أعلاه لم توفق في فهم آلية نمو ناتج القطاع الخاص، فصاحب الطرح الأول اعتقد جاهلاً أن حساب الناتج في الحسابات القومية مثل حساب الأرباح والخسائر في الأنشطة التجارية، لذلك كان يعتقد جازماً أن تخفيض عدد العمالة الأجنبية وبالتالي تخفيض الأجور المدفوعة لها يعني تخفيض التكاليف على منشآت القطاع الخاص مما سيؤدي إلى رفع الناتج! ولم يعلم أن أجور العاملين سواء سعوديين أو أجانب هي من أهم مكونات القيمة المضافة للناتج المحلي الإجمالي. أما أصحاب الطروحات المشككة، فهم معذورون بسبب عدم إلمامهم بأساليب الحسابات القومية. وأخيراً، لا تعليق عندي على السرديين من أصحاب الطرح الثالث لأنه لا رأي ولا تحليل لديهم.
مشاركة :