يعتبر البيان الذي أصدرته السفارة الأميركية في لبنان حول تداعيات حادثة قبرشمون الأخيرة مفصلا مهمّا في السياسة الأميركية حيال لبنان، وهو ما زال قيد التأمل والتحليل فيما تنخرط منابر متعدّدة في استشراف ما يمكن أن يؤسسه هذا البيان من سياسة جديدة لم تعهدها بيروت من قبل واشنطن. لقد صدر البيان في 7 أغسطس الجاري داعيا إلى عدم تسييس القضاء في معالجة الحادث الذي أودى في 30 يونيو الماضي بحياة مرافقين للوزير صالح الغريب، المقرّب من رئيس الحزب الديمقراطي اللبناني النائب الدرزي طلال أرسلان. وقالت حنين غدار، وهي زميلة في معهد واشنطن في مقال لها حول الموضوع، إن البيان نفسه والحادث يسلّطان الضوء على الطريقة التي يعمل بها حزب الله وحلفاؤه السياسيون، من خلال تسعير التوترات الطائفية على نحو متزايد ضد خصومهم. ولا يمكن لبيان السفارة الأميركية إلاّ أن يكون خلفية جديدة تواكب الزيارة التي يقوم بها رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري هذه الأيام إلى واشنطن. وتتضارب الأنباء والتقارير الواردة من بيروت كما تلك من واشنطن عن الأجواء التي ستضع فيها واشنطن ضيفها اللبناني، والأجواء التي يحملها الحريري للتعامل مع مستجدات السياسة الأميركية بالنسبة للبنان والمنطقة. وتلفت غدار في مقالها إلى أنه رغم أن البيان الأميركي لم يُشر إلى أي قادة لبنانيين بالاسم، إلا أنه اعتبر رسالة واضحة للرئيس ميشال عون ووزير الخارجية، صهر عون، جبران باسيل، والذي يطمح إلى خلافته في الانتخابات الرئاسية القادمة.ويرى مراقبون في لبنان أن باسيل يمشي على خطى عمّه للوصول إلى قصر الرئاسة في بعبدا من خلال التمسك بالحلف مع حزب الله والتعويل عليه وحده لإيصاله إلى كرسي الرئاسة على منوال ما فعله الحزب للرئيس الحالي. وتقول غدار إن باسيل يسعى إلى إقناع حزب الله بأنه الزعيم الماروني الأفضل لرئاسة لبنان. ومعلوم أن حظوظ الزعيم الشمالي الماروني سليمان فرنجية كانت عالية في منافسة ميشال عون على الرئاسة كونه حليفا لحزب الله ونظام دمشق، وقد حظي حينها بدعم الحريري. غير أن حزب الله رجّح كفّة عون، وهو أمر يعوّل عليه باسيل للتغلّب على منافسيه في هذا الصدد. وتلاحظ غدار أن باسيل يعمل على استمالة الحزب وهو، بصفته وزيرا للخارجية، لم يحد عن خيارات السياسة الخارجية الإيرانية في لبنان، مثل دعم تورّط حزب الله في الحرب السورية، كما ردّد موقف طهران من الشؤون الدولية والسياسة الأميركية في المنطقة. وفي هذا الصدد قدّم الرئيس عون الدعم لحزب الله والدفاع عن سلاحه، بما اعتبره المراقبون موقفا وفيّا لدور الحزب في إيصاله إلى بعبدا، وورشة يقوم من خلالها عون العمّ في إقناع الحزب باعتماد ترشيح باسيل الصهر دون غيره للرئاسة المقبلة في لبنان. غير أنه إضافة إلى منافسي باسيل المعروفين مثل فرنجية وسمير جعجع، رئيس حزب القوات اللبنانية، تلفت غدار إلى أن باسيل يحرص أيضا على تعزيز قوته السياسية ضد منافسه جوزيف عون، قائد القوات الجيش اللبناني، الذي أصبح ترشيحه أكثر خطورة بعد زيارته الأخيرة لواشنطن، علما أن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب ستظلّ فاترة تجاهه في ضوء ارتباطه بحزب الله. والظاهر أن باسيل يسعى من خلال جولاته داخل لبنان إلى فرض نفسه شخصية رئاسية في لبنان، كما أنه يعمل على إضعاف الزعامات المحلية التي قد تقف عائقا دون تحقيق طموحاته. ويرى المراقبون أن باسيل كان يسعى بالتحالف مع حزب الله إلى إضعاف الزعيم الدرزي وليد جنبلاط الذي عارض ترشّح عون للرئاسة في السابق، وهو يعارض ترشح باسيل له في المستقبل، علماً أنّ حادث قبرشمون يعود إلى ما سبّبته زيارة باسيل لمنطقة “الجبل” التي توالي بأغلبها جنبلاط من استفزاز، فيما اعتبر جنبلاط أن ميشال عون وصهره وحزب الله يعملون مجتمعين لكسر زعامته في لبنان.وتستنتج غدار أن بيان السفارة الأميركية قد أحبط خطط باسيل مؤقتا لكن الأمر لم يضعفه. وترى أن هناك الكثير مما يجب القيام به لفضح تحالفه مع حزب الله، والحدّ من سيطرته في لبنان، وحماية خصوم حزب الله السياسيين المحليين، وأنه لا يزال لدى الولايات المتحدة نفوذ كافٍ مع شخصيات لبنانية رئيسية للقيام بذلك، خاصة أثناء وجود رئيس الوزراء الحريري في واشنطن. وقد دار جدل في لبنان حول كيفية التعامل قضائيّا مع حادثة قبرشمون. ففيما دعا جنبلاط إلى تحقيق نزيه يميط اللثام عن ظروف الحادث، وفيما كشفت التحقيقات التي أجراها فرع المعلومات التابع لقوى الأمن الداخلي أن مرافقي الوزير صالح الغريب هم من بدأوا بإطلاق النار، اعتبر النائب طلال أرسلان، خصم جنبلاط المتحالف مع حزب الله، أن الأمر ليس حادثا بل كمينا لاغتيال الوزير الغريب مما يستدعي تحويل القضية إلى المجلس العدلي. وتقول غدار إن المجلس العدلي هو هيئة يسيطر عليها حزب الله وحلفاؤه. وأن حزب الله قادر على استخدام نفوذه لمحاصرة جنبلاط وإدانته وإصدار حكم عليه، وربما تدميره سياسيّا وشخصيّا. ورفض جنبلاط هذه المسألة واعتبرها خطة سياسية تستهدفه وتستهدف البيت الجنبلاطي، لاسيما حين بدا أن التعنّت يتجاوز أرسلان ليصدر عن الرئيس عون، بعد أن نقل عنه أنّ الحادث كان كمينا يستهدف صهره عون. وأجمع المراقبون أن هذا التحرّك ضد جنبلاط يتم برعاية كاملة من قبل حزب الله. وكان حسن نصرالله، أمين عام الحزب، قد جاهر بدعم أرسلان وداعما إحالة القضية إلى المجلس العدلي. وتقول غدار في مقالها إن حزب الله أيّد جهود باسيل لأن إضعاف جنبلاط من شأنه أن يخدم مصالحه الخاصة ومصالح بشار الأسد في دمشق. وسبق لنصرالله أن انتقد جنبلاط في أعقاب مواقف اتخذها الزعيم الدرزي ضد دمشق وطهران والغمز من قناة الحزب وسلاحه. وتذكر غدار بأن حزب الله قد غضب إثر موقف لجنبلاط اعتبر فيه أن مزارع شبعا ليست لبنانية. ولطالما تمسّك الحزب بهذه القضية لتبرير تمسّكه بسلاحه من أجل تحرير هذه المنطقة التي تحتلها إسرائيل منذ عام 1967. ورغم أن الطبقة السياسية في لبنان اجتمعت بعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان على اعتبار مزارع شبعا لبنانية، إلا أن بيروت لم تستطع أن تستحصل من دمشق على اعتراف موثّق يؤكد لبنانية هذه المنطقة التي احتلتها إسرائيل بصفتها أراضي سورية ملحقة بالجولان. ويقول مراقبون إن بيان السفارة الأميركية قلب الأمور رأسا على عقب وأربك الصفّ السياسي في البلد، وإن الموقف الأميركي وضع خطا أحمر لحماية جنبلاط باعتباره يتخذ مواقف مقاومة لهيمنة حزب الله ولتسيّد حلفائه على المشهد السياسي اللبناني.
مشاركة :