البعض يعتقد أن الحديث عن احتمالات انسحاب أمريكا من المنطقة يعني أنها سوف تنسحب عسكريا، بمعنى أنها سوف تغلق قواعدها العسكرية وتسحب قواتها، وتنهي وجودها في المنطقة. وهذا ليس صحيحا أبدا، وليس هو المقصود بالانسحاب من المنطقة. أمريكا لن تغلق قواعدها العسكرية، ولن تسحب قواتها. لها في وجود القواعد والقوات مآرب استراتيجية كثيرة، ولا يمكن لأي إدارة أمريكية أن تجازف وتفكر في خطوة مثل هذه. ماذا يعني الانسحاب الأمريكي إذن؟ الحديث عن الانسحاب الأمريكي يعني أن المنطقة لن تحتل في الاهتمام الاستراتيجي الأمريكي نفس الأهمية التي احتلتها في العقود الطويلة الماضية. .. يعني أن أمريكا لن تهتم كثيرا ولن تشغل بالها كثيرا بقضايا المنطقة المتفجرة، ولن تعتبر أن حلها أو حسمها أولوية بالنسبة لها، ولن تكترث ببذل جهود كبيرة من أجل ذلك. .. يعني أن الفكرة التي مثلت ثابتا دائما في استراتيجية أمريكا عبر العقود الماضية، بالالتزام بالوقوف بجانب الحلفاء في المنطقة وحماية أمنهم واستقرارهم والدفاع عنهم لن يعود لها نفس القدر من الأهمية، ولن تكون أمريكا ملزمة بأن تفعل ذلك. .. يعني بالتالي أن قضية كبرى مثل قضية الأمن والاستقرار في منطقة الخليج التي كانت في صلب الاهتمام الاستراتيجي الأمريكي لن تعود كذلك. هذا في تقديرنا هو ما يعنيه الانسحاب الأمريكي من المنطقة. وعلى أي حال، لم يعد هذا التقدير مجرد توقع أو افتراض نظري. لقد رأينا تطبيقا عمليا لهذا النهج الجديد فيما يتعلق بالتهديدات الإيرانية للملاحة في الخليج ومسألة حماية السفن. التهديد الإيراني للملاحة أصبح جسيما وماثلا للعيان بما فعلته إيران من اعتداءات على سفن واحتجاز للناقلات وبتهديداتها اليومية. بحسب الاستراتيجية الأمريكية التقليدية كان من المفروض أن تتصدى أمريكا بحزم شديد لهذه التهديدات. لكن لا حظنا أن الإدارة الأمريكية تتعامل مع هذه التهديدات بهدوء وبرود شديد، وعمليا لم تفعل شيئا تقريبا لوقفها وردع ايران. وتمثل جوهر الموقف الأمريكي كما عبر عنه ترامب هو القول ان قضية إمدادات النفط وحمايتها لم تعد تمثل لأمريكا مصدر قلق كبير، وأن الدول الأخرى هي التي يجب أن تحمي الملاحة في الخليج. المهم ان هذا التحول في الاستراتيجية الأمريكية، وما يرتبط به من انسحاب من المنطقة بالمعاني التي تحدثنا عنها، سوف تترتب عليه نتائج كثيرة لها أهمية كبرى بالنسبة للدول العربية. وأول وأكبر القضايا التي سينعكس عليها هذا التحول، قضية الموقف الأمريكي من النظام الإيراني ومشروعه الطائفي التوسعي في المنطقة. بحسب هذا التفكير الأمريكي الجديد، فإن كل ما يهم أمريكا بالنسبة للمشروع الإيراني هو ألا تشكل إيران مصدرا لأي تهديد للكيان الإسرائيلي. كل ما يهم أمريكا هو ألا تمتلك إيران سلاحا نوويا يمكن أن يهدد الكيان الاسرائيلي، وأيضا ألا تشكل الصواريخ الإيرانية مصدرا للتهديد سواء مباشرة أو عبر عملاء إيران، وخصوصا حزب لله. بعبارة أخرى، إذا استطاعت أمريكا التفاوض مع إيران والتوصل معها إلى اتفاق جديد يضمن عدم الحصول على أسلحة نووية، ويحجم التهديد الصاروخي، فسوف تعتبر أن مصلحتها الاستراتيجية السياسية في المنطقة قد تحققت، ولن يعنيها كثيرا بعد ذلك أي شيء آخر، بما في ذلك التهديد الإيراني الجسيم لأمن الدول العربية الدول العربية يجب ان تتابع هذا الجدل الدائر حول الانسحاب الأمريكي والتحول في استراتيجية أمريكا، وأن تقرر ماذا ستفعل وكيف ستتعامل مع هذه التطورات الجديدة.
مشاركة :