دخل المتنافسون على نيل ترشيح الحزب الديمقراطي حلبة الصراع رسميًا لخوض انتخابات الرئاسة الأمريكية المقررة في نوفمبر 2020. وانطلقت المناظرات الهادفة إلى إقناع الناخبين بأبرز مواقفهم من القضايا السياسة والاجتماعية والاقتصادية، والساعية لعرض رؤيتهم للملامح المتوقعة لحكمهم الديمقراطي، وبدا خلالها مدى الأهمية الاستراتيجية التي تمثلها منطقة الشرق الأوسط بالنسبة لواشنطن والعالم على نطاق أوسع. وعلى الرغم من عدد المرشحين الكبير في سباق الرئاسة، فإنه من المؤكد أن واحدا من بين ثلاثة مرشحين سيفوز بترشيح الحزب الديمقراطي في نهاية المطاف وهم؛ «جو بايدن« و«إليزابيث وارن» و«بيرني ساندرز». ويحتل «بايدن» في الوقت الحالي مقدمة كل استطلاعات الرأي تقريبًا. وأظهر استطلاع رأي لمؤسسة «بوليتيكال انتليجنس»؛ البحثية بواشنطن، أُجري في نهاية يوليو حصوله على 33% من أصوات الديمقراطيين، بينما حصلت ساندرز ووارن على 18% و13% على التوالي. وحتى في الاستطلاع الذي حصل فيه على أقل نسبة، والذي أعلنت عنه مجلة «الايكونوميست» في 31 يوليو الماضي، حصل «بايدن» على 26% مقابل20% لـ «ووارن» و13% لـ«ساندرز». وفي حين أن هذه الإحصاءات يمكن أن تتغير، خاصة وأن قائمة المرشحين اقتصرت على اثنين فقط، هما «بايدن» و«وارن»، فمن المحتمل بشكل كبير أن يفوز أحدهما بالمنصب تحت أي ظرف. وبالتالي، من الضروري تسليط الضوء على توجهات وأيدولوجية وسياسة التعامل مع الشرق الأوسط الخاصة بهؤلاء المرشحين الثلاثة، والتي يمكن تقسيمها إلى فئتين. الأولى: مدرسة الفكر التي يُمثلها «بايدن»، والتي تتبنى النظرة الديمقراطية التقليدية؛ المتمثلة في تعزيز التدخل الليبرالي في الشرق الأوسط، الأمر الذي تجسد في دعمه القديم لحرب العراق، والحفاظ على الروابط الاقتصادية، والعسكرية والسياسية مع حلفاء الولايات المتحدة التقليديين؛ مثل إسرائيل، والسعودية ومصر. وعلى النقيض من ذلك، الفئة الثانية، أو ما يُسمى بـ«المرشحين التقدميين»، مثل، «وارن» و«ساندرز»، ويعد نهجهم أكثر تطرفًا فيما يتعلق بالسياق السياسي الأمريكي المعتاد، فهم يتنصلون من علاقات واشنطن مع الحلفاء التقليديين، ويعارضون جميع أشكال التدخل في منطقة الشرق الأوسط. وتشير آراؤهم إلى إيمانهم القوي بإقامة دولة فلسطينية وتطبيق خطة سلام قائمة على مراعاة حقوق الإنسان. ومع ذلك، يرى الديمقراطيون أن اختيار مرشح للرئاسة، يجب أن يكون قائما على أساس من بإمكانه تغيير اتجاهات السياسة الأمريكية. يقول «جيوفري كاباسيرفيس»، في صحيفة «الجارديان»، «إن ترشيح بايدن وتنفيذ سياسته قد لا تتناسب مع ما يؤمن به الجناح التقدمي بالحزب الديمقراطي، وأبرز ممثليه «وارن». ووفقًا لذلك، يجب على الديمقراطيين اختيار مرشح يعمل على أجندة جريئة للتغيير الجذري». وشجّعت قوة هذا الاعتقاد داخل الحزب الديمقراطي، «بايدن» على تبني بعض المواقف السياسية لساندرز ووارن؛ لتعزيز فرصه في الحصول على الترشح، برغم مبادئه التقليدية. ومع ذلك، فإنه في حال أن أحد المرشحين فاز بالسباق الرئاسي، فإنه سيكون هناك تأثير على صنع السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط. وهذا التأثير من شقين؛ الأول، أن هذا سيعني حيادًا جذريًا عن نهج ترامب الحالي، والثاني، أنه ستختلف وجهات نظرهم تجاه الشرق الأوسط بعض الشيء. ويتجلى هذا خلال آرائهم حول العديد من القضايا المهمة وخاصة قضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وتسير هذه الجولة من الانتخابات الأمريكية حتى الآن بشكل مغاير عما كانت عليه منذ عقود فيما يتعلق بهذه القضية. وبدأت تظهر لأول مرة حركة سياسية معادية لإسرائيل تنمو داخل صفوف الديمقراطيين، وكما أوضحت صحيفة «نيويورك تايمز»، فإن «ملاحظات الديمقراطيين المتعلقة بإسرائيل آخذة في التغير المستمر، فمنذ أعاد «ترامب» تحديد الدور الأمريكي في المنطقة بدأ يشكك جيل من الليبراليين في مسألة دعم الديمقراطيين لسياسات إسرائيل المتعلقة بالشأن الأمني». وقد أدى هذا إلى تخلي المرشحين عن تقاليدهم الحزبية بالتعهد بالدعم التام لإسرائيل، فضلا عن انتقاد سلوكها لرفضها الدخول في عملية تسوية مثمرة، حيث أوضحت «وارن»، «أن الموقف الحالي الإسرائيلي غير مقبول»، وأضافت «ساندرز»، أن «دور الولايات المتحدة يتلخص في العمل مع جميع الكيانات في المنطقة بما في ذلك الفلسطينيون»، وربما تكون هذه المرة الأولى التي يتحدث فيها مسؤولون سياسيون بارزون بعبارات تُمثل مصلحة القضية الفلسطينية منذ أعوام. وذكر «ستيفن كوك»، من «مجلس العلاقات الخارجية»، أن «الكثير من الديمقراطيين أصبحوا متناقضين حول ما يُسمى بالعلاقة الخاصة مع إسرائيل، وفي مقابل ذلك يميلون نحو قضايا، مثل «حقوق الإنسان والعدالة الدولية». وأضاف، «بدأت معايير النقاش حول الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين يأخذ منحنى آخر في ضوء اعتزام إسرائيل ضم أجزاء كبيرة من الضفة الغربية. ويتضح هذا من تحذير عناصر اليسار في الحزب الديمقراطي نتانياهو علنا من الضم». ومن المفارقات، أن «بايدن» الذي كان من أقوى المدافعين عن إسرائيل بدأ في التخفيف من حدة آرائه؛ حيث كان قد صّوت عام 1982 -باعتباره عضوًا في الكونجرس آنذاك- على زيادة المساعدات الأمريكية لإسرائيل رغم اعتراضات الرئيس الأمريكي رونالد ريجان. وفي عام 1995. صّوت على نقل السفارة الأمريكية من إسرائيل إلى القدس. ولكن في خضم السباق الرئاسي الحالي، عبّر «بايدن»، إلى جانب ساندرز ووارن، عن دعمه لتعزيز حقوق الإنسان الفلسطيني والعمل على تنفيذ حل الدولتين باعتباره شرطًا أساسيًا لأي عملية للسلام. وتجلى هذا في حديث له مؤخرًا مع مجلس العلاقات الخارجية، أكد فيه أن «حل الدولتين هو السبيل الوحيد لتحقيق أمن طويل الأجل لإسرائيل مع الحفاظ على هويتها كدولة يهودية وديمقراطية، كما أنها الطريقة الوحيدة لصيانة كرامة الفلسطينيين ومصلحتهم المشروعة في تقرير مصيرهم على الصعيد الوطني». وعلى الرغم من هذا التحول الواضح، لازال هناك تردد في الابتعاد عن التأييد التام لإسرائيل وخاصة فيما يتعلق بالنزاع بينها وبين الفلسطينيين. إذ لم يتعهد أحد بعد بتغيير وإلغاء قرارات ترامب الأخيرة المثيرة للجدل من نقل السفارة الأمريكية إلى القدس والاعتراف بها عاصمة لإسرائيل أو قطع المساعدات عن المنظمات الفلسطينية، ناهيك عن صمتهم عن انتقاد رئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو وحكومته بشكل مباشر رُغم استمرار انتهاكاتهم لحقوق الشعب الفلسطيني. ويشير «جيمس زغبي»، في موقع «لوب لوج»، إلى أنه على الرغم من إحراز بعض التقدم، فإن «معظم الديمقراطيين أمامهم طريق طويل يتعين عليهم أن يخوضوه في التعامل مع إسرائيل/ فلسطين»، بسبب طُغيان تواجد اللوبي الإسرائيلي الموالي لها داخل واشنطن». ورغم أن الجميع يبدون اختلافًا عن نهج الإدارة الحالية، فمن الواضح أنهم لن يبتعدوا عن النهج الأمريكي التقليدي تجاه الصراع؛ والذي ربما يتشابه مع فترة ولاية باراك أوباما. وينطبق الشيء ذاته على طريقة تعاملهم مع القضية الثانية الأكثر إلحاحًا في الشرق الأوسط وهي آلية التعامل مع إيران، ورغم حجم الأزمة الحالية في الخليج، بالكاد ظهرت إيران في عدد من المناقشات بين المرشحين. وأكد «إدوارد دوفير»، في مجلة «ذا أتلانتيك»، أن «ما يقوم به ترامب تجاه إيران يُمكن أن يعيد تشكيل النظام العالمي، لكن في السباق الانتخابي ومع سعي المُرشحين لإقصاء ترامب، أصبحت الأزمة مع إيران يتم تناولها بشكل هائل». وانصب النقاش حتى الآن على مُجرد انتقادهم لتعامل ترامب مع القضية، وذلك دون تقديم نظرة ثاقبة حول رؤياهم السياسية عن كيفية التعاطي معها. ويضيف «دوفير»، إلا «أن أحدا من المرشحين لم يتطرق إلى ما الذي سيفعله حيال التوترات بين البلدين؛ واشنطن وطهران وانصب تركيزهم على محاولتهم إخراج ترامب من منصبه عبر انتقاده فحسب». وعلى سبيل المثال، اقتصر اهتمام «وارن» على تغريدة واحدة، جاء فيها: «انسحب ترامب من صفقة كانت مؤثرة وحرض على الدخول في صراع آخر من دون داع، لا يوجد أي مبرر لمزيد من تصعيد هذه الأزمة نحن بحاجة إلى الابتعاد عن حافة الحرب». ولم يُدل أي من «ساندرز» و«بايدن» سوى بالقليل، بخلاف القول بأن أسلوب ونهج ترامب العدواني «خاطئ وخطير». وفي إطار هذا الواقع، يتضح سعى الجميع إلى تنفيذ سياسة تصالحية تجاه إيران، من دون تقديم أي إشارة إلى تحركات سياسية مُحددة. وكانت التعليقات البناءة الوحيدة التي قدموها هي عزمهم جميعًا على العودة إلى الاتفاق النووي، حال وصولهم للبيت الأبيض. وقال «بايدن»: «إذا عادت إيران إلى الامتثال بالتزاماتها النووية، فسوف أعود إلى جانب حلفائنا في أوروبا والقوى العالمية الأخرى لتمديد الاتفاق النووي»، مؤكدا أن ذلك سيؤدي إلى «توفير دَفْعَة لإعادة تأكيد مصداقية الولايات المتحدة؛ مما يُعطي رسالة إلى العالم بالتزامها بتعهداتها الدولية». أما فيما يتعلق بعلاقات الولايات المتحدة بالخليج، فقد تعهد كل من «وارن» و«ساندرز» بشكل خاص تمشيا مع وضعهما كيساريين داخل الحزب الديمقراطي بخفض هذه العلاقات، مع السعي للحفاظ على علاقات اقتصادية وعسكرية وسياسية وثيقة قابلة للتطبيق. ويؤكد «مايك واتسون»، من «معهد هدسون»، بواشنطن، أن «ساندرز، الذي اتصف في الانتخابات التمهيدية لعام 2016 باللامبالاة بسبب تشابه سياساته مع الناتو ودونالد ترامب، اختار هذه المرة التناقض مع سياسات ترمب في الخليج». وعلى شكل مغاير وعد «بايدن» بإعادة صياغة العلاقة مع الرياض عبر مساعدتها على العمل على توسيع نطاق حماية حقوق الإنسان في منطقة الخليج برمتها. أما ما يتعلق بموقف المرشحين الثلاثة حيال التواجد الأمريكي في الشرق الأوسط؛ وهي القضية التي تمثل خلافًا سياسيا في واشنطن منذ فشل حرب العراق، فقد بدا شبه إجماع على تقليل التدخل الأمريكي في الحروب الخارجية، والحد من مسؤوليات واشنطن الأمنية في الشرق الأوسط. وأشار «لويجي سكازيري» من «المركز الأوروبي للإصلاح»، إلى أن «كثيرا من المرشحين للرئاسة الأمريكية شككوا في مدى جدوى التدخلات الأمريكية في الشؤون الخارجية للدول». ورغم أن «بايدن»، كان مؤيدًا حتى وقت قريب للتدخل في شؤون الدول الخارجية، فإنه يرى أن الانسحاب من الشرق الأوسط والتخلي عنه يمثل أولوية استراتيجية. وهو الأمر ذاته بالنسبة إلى كل من «ساندرز» و«وارن»، فلديهما معارضة آيديولوجية لما يعتبرونه تدخلاً أمريكيًا في شؤون الدول الأخرى، مدفوعين بإخفاقات واشنطن من وراء اشتراكها في الحروب بالعراق وأفغانستان وليبيا بدرجة أقل. ورغم أنه من غير المرجح أن تتخلى الولايات المتحدة عن الشرق الأوسط كليًا. فمن المحتمل أن يتم تخفيض سقف طموحاتها السياسية بعض الشيء حيال المنطقة. ولعل من بين الملامح الرئيسية لهذا التخلي هو تقليل اعتماد واشنطن على موارد النفط والغاز من المنطقة. وفي حين أن الولايات المتحدة ستظل مهتمة بضمان الاستقرار العالمي في امدادات النفط الخام وأسعاره، فهي الآن أقل اعتمادًا على موارد الطاقة من المنطقة مما كانت عليه في الماضي، وذلك بفضل ارتفاع الإنتاج المحلي لديها. على العموم، يعرض جميع المرشحين رؤى وتغييرًا جذريًا في النهج على عكس ترامب، نظرًا إلى أن «بايدن» بدا يساريًا بجانب «ساندرز» و«وارن»، والذين أظهروا نوعًا من التوافق في المواقف والآراء تقريبًا إزاء العديد من قضايا الشرق الأوسط. وبرغم خلافاتهم، أجمع المرشحون على تأكيد قيم الوحدة من أجل التغلب على ترامب واستعادة «الروح» الأمريكية. ومع احتمالية بزوغ نجم «بايدن» باعتباره المرشح الديمقراطي الأوفر حظًا، يمكن توقع أن الولايات المتحدة ستعود إلى تبني نهج أقرب إلى النهج الذي تبناه الرئيس الأسبق باراك أوباما حيال المنطقة.
مشاركة :