حل عقدة أوديب في المجتمعات العربية لا يتم بشكل طبيعي وسليم

  • 8/16/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

يجمع نقاد الفكر والثقافة في الغرب أن قضية الهوية المركّبة قد أصبحت من أبرز المعضلات التي ما فتئت تواجههم على صعيد الفهم النظري، وعلى مستوى قبول صدمة التغيّرات الديموغرافية والاقتصادية والثقافية الكبرى التي انطبعت بطابعها مجتمعاتهم راهنا، إذ أصبحت المجتمعات الأوروبية متعددة القوميات والديانات واللغات والثقافات ولم تعد “بيضاء” كما كانت في عهود دانتي وجون كيتس ليوناردو دافنشي أو رامبرانت. نظرا إلى هذا الواقع المختلف فقد اندلع سجال حول تعقيدات تعددية الهويات الثقافية والدينية والإثنية والعرقية في الفضاء الأوروبي/ الغربي، وأفرز هذا الوضع مفاهيم جديدة لم تكن تعرفها الثقافة الأوروبية/ الغربية من قبل، منها مفهوم الهوية/ المشكال (ويعني تشبيه الهوية المركبة بالمشكال وهو أداة تحتوي على قطع متحركة من الزجاج الملوّن ما أن تتغير أوضاعها حتى تعكس مجموعة لا نهاية لها من الأشكال الهندسية مختلفة الألوان). وهناك أيضا منظّرون ينتجون نظريات تقول إن الآخر الأجنبي هو الجزء المكبوت والمنبوذ من هوياتنا، الذي ينبغي أن نخرجه من منطقة اللاوعي لنتصالح معه. وهنا نتساءل: لماذا لم يسع النقد الثقافي العربي إلى بناء نظرية ذات خصوصية للهوية / المشكال باعتبارها لاوعيا ثقافيا والنظر إلى هذا الأخير كجزء مكوّن أساسي لهذا النمط الجديد من الهوية؟ ولماذا بقيت الهوية عندنا رديفا للعشيرة أو للقبيلة؟ ثنائية الهوية لاشك أنه من السهل أن يعثر الدارس في الكتابات النقدية العربية المعاصرة على مقاربات تحاول سبر الهوية ومكوَناتها وأنماطها مثل الهوية الثقافية أو الدينية، أو الجنسية، أو الاجتماعية أو السياسية، أو الإثنية أو العرقية وغيرها، ولكن من النادر جدا أن يجد في هذه الكتابات فحصا دقيقا لتأثير اللاوعي الثقافي أو السياسي في بناء الهويات الفردية والجماعية في مجتمعاتنا وهلم جرَا. ونتساءل هنا عن الدور الذي تلعبه العشيرة المغلقة على نفسها مثلا في تشكيل اللامعقول في تراثنا الفكري والثقافي الذي يشكّل بدورها الشخصية القاعدية لهواياتنا؟ يبدو واضحا أن أغلب النقاد العرب مهمومون أكثر، وبشكل ملفت للانتباه، بالهوية الخارجية سواء كانت أيديولوجية قومية أو دينية إلخ على حساب الانخراط في إدراك وفهم مشكلات هوية الإنسان الداخلية المضمرة على ضوء دراسة ووعي التأثير المتبادل كل هذه العناصر أو الأبعاد. وفي الواقع فإنّ السائد عندنا هو القلق على جمود نموّ الهويات وانكساراتها الاجتماعية والسياسية، وتحفيز آليات النوستالجيا إلى الماضي البعيد من تاريخنا القديم للتعويض عن أزمات الحاضر وانتكاساته، والخوف من الثقافات الأجنبية على “غزو” مجتمعاتنا أكثر من الانخراط في فتح آفاق جديدة تكون مسرحا لبناء ذوات فاعلة ومحركة للتاريخ. التغيّر الديمغرافي والاقتصادي والسياسي والفكري والتكنولوجي وغيرها من المتغيّرات الجذرية تطرح إشكال الهوية من جديد في الثقافة العربية وفي هذا المضمار هناك بعض الاستثناءات منها، على سبيل المثال مساهمات كل من علي الوردي في دراسة نفسية الهوية العراقية نقديا وفي صلب ذلك الهوية العشائرية والقبلية، وإنجاز مصطفى زيعور الذي ركز على تحليل البنية الخرافية في ثقافة المجتمع العربي باعتبار الخرافة إفرازا للاوعي الثقافي والسياسي وتشكيلا له أيضا، وجورج طرابيشي في تفكيكه المثير للجدل لهويات المثقفين العرب من خلال تحليله لشبكة العقد والرضّات النفسية التي يحفل بها ويكرسها الخطاب العربي المعاصر بالتركيز على بنيته المضمرة في كتابيه “المثقفون العرب والتراث: التحليل النفسي لعصاب جماعي” و“من النهضة إلى الردة: تمزقات الثقافة العربية في عصر العولمة”. لا شك أن هذه الدراسات التي أشرت إليها بإيجاز توظف آليات التحليل النفسي التقليدي لسبر طبقات اللاوعي الثقافي المهزوم المتراكم في تضاريس الهوية الفردية والجماعية في الفضاء العربي. وبالمقابل هناك تجارب أكثر تطورا في مجال تحليل البنيات اللاعقلانية لأجزاء معتبرة من معمار الهوية الثقافية والسياسية في مجتمعاتنا وتتلخص هذه التجارب في عدد قليل من المساهمات النقدية النظرية والعملية وفي صدارتها كتابات مصطفى صفوان وعدنان حبَ الله اللذين تمكنا، بواسطة استثمار تجربتيهما الفكرية التحليلية النفسية التي جلباهما من فرنسا، من خلال توظيفهما لتقنيات تحليل لاوعي الهوية الثقافية، وخاصة تقنيات تحليل الذات اللاواعية المنقسمة كما نظر لها وطور ممارستها جاك لاكان وتلاميذه، أمثال جان ديفيد نازيو وجاك ألان ميللر وغيرهما كثير. وفي الواقع فإن مصطفى صفوان وعدنان حب الله قد بذلا جهدا معتبرا في الكشف عن مشكلات الهوية في مجتمعاتنا وعلاقة كل ذلك بمخزون اللاوعي الثقافي والسياسي والاجتماعي، وذلك من خلال نظرهما إلى هذه المشكلات كنسخ نمطية بموجبها يعاد إنتاج قيم عصبية القبيلة أو العشيرة في حياتنا الاجتماعية وفي علاقاتنا اليومية وفي طبيعة الحكم السياسي معا. صدى القبيلةيلاحظ مصطفى صفوان أن “الفردية غير موجودة في الثقافة العربية أو تهمَش أمام الجماعة، أضف إلى ذلك أن البنية الاجتماعية العربية لا تزال في أكثر المناطق الريفية قبلية”، ويعني هذا إلغاء الفردية المستقلة هو من فعل القبيلة أو العشيرة، أو الطائفة، أو أيديولوجية الطبقة السائدة المغلقة على نفسها التي تقمع بروز هويات الأفراد المستقلين في مجتمعاتنا. وفقا للدكتور مصطفى صفوان فإن حل عقدة أوديب في المجتمعات العربية لا تتم بشكل طبيعي وسليم لأنها تبقى موزَعة و“لا تحصر في البنية الثلاثية” أي الطفل والأم والأب. وهذا يعني أن المشرّع للقانون وللقيم، وللسلطة ليس الأسرة الثلاثية، بل القبيلة أو العشيرة أو الطائفة” في هذه المجتمعات، ومن ثم يخلصان إلى القول بأن “الانتقال من التوزيع القبلي إلى الثلاثي الأوديبي يتطلب أجيالا، وإذا ما حصل بسرعة من دون تمهيد يؤكد مما لا شك فيه العنف، لأن الاستعانة بالآخر لامتصاص العداء يصبح ضرورة للحفاظ على سلامة الذات”. وفي المقدمة التي كتبها الشاعر والناقد أدونيس لكتاب صفوان وحب الله “إشكاليات المجتمع العربي”، نجده يتابع استنتاجاتهما حين تساءل عن شيء غير موجود هكذا هل توجد “ذاتية في الثقافة الإسلامية السلفية؟”، ومن البديهي القول إن الإجابة عن هذا التساؤل تفضي إلى التأكيد أن هوية الفرد المستقلّ والحر في الثقافة العربية، وفي تجليات السياسة، وخطابات السلطة، وفي العلاقات الاجتماعية هي هوية إشكالية معقّدة تدخل فقط في إطار الأمنيات والتفكير الرغبي، وفي هذا الخصوص يعبّر صفوان بوضوح “أنا أتمنى للمجتمع العربي أن تتعدد فيه مراكز القوى، دون أن يحصل استفراد بالحكم نظرا إلى أن الاستفراد بالحكم مبني على فكرة الواحد، أي على الطوطمية وأتمنى زوال الطوطمية في نهاية الأمر”.

مشاركة :