د. محمد الصياد * رفعت الحكومة الفرنسية في فبراير مشروع قانون لإسقاط هدف فرنسا السابق بخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري إلى رُبع مستويات عام 1990، والاستعاضة عنه بهدف تحييد الكربون بحلول عام 2050.لعلنا نتذكر كيف قام وزير البيئة الفرنسي، نيكولا أولو، في شهر أغسطس/ آب من العام الماضي، وبصورة مفاجئة بإعلان استقالته من الحكومة أثناء مقابلة إذاعية كانت تبث مباشرة على الهواء. يومها برر ما قام به بالقول إنه استقال «بسبب سلسلة من الإحباطات التي واجهته خلال محاولاته التعامل مع التغير المناخي، وتهديدات بيئية أخرى»، مضيفاً أنه شعر «بالوحدة» في الحكومة. وجاءت استقالته بعد يوم من إعلان الحكومة تخفيف القيود على الصيد، ما اعتبره الوزير خضوعاً حكومياً لجماعات الضغط التي أثبتت أن لها اليد الطولى في تقرير السياسات الكلية والجزئية، على حد سواء. والوزير أولو معروف على نطاق واسع في فرنسا كناشط بيئي، ومقدم برنامج تلفزيوني، وكان أكثر وزراء حكومة ماكرون تمتعاً بالشعبية الجماهيرية التي كان يستفيد منها الرئيس ماكرون الذي تراجعت شعبيته في ظرف زمني قياسي بسبب سياساته الاقتصادية النيوليبرالية الراديكالية.في السياق نفسه، قامت الحكومة الفرنسية في السابع من فبراير/ شباط الماضي برفع مشروع قانون إلى المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، يقضي بالتزام فرنسا بتحييد الكربون بحلول عام 2050. وبفحص مقترح القانون سنجد أنه يتضمن التالي: إسقاط هدف فرنسا السابق الذي كان يقضي بخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري إلى رُبع مستويات عام 1990، والاستعاضة عنه بهدف تحييد الكربون بحلول عام 2050؛ وتأجيل هدف خفض حصة الطاقة النووية من 75% اليوم إلى 50%، من 2025 إلى 2035؛ والتراجع عن هدف خفض الاستهلاك الوطني للطاقة، حيث تم تقليص الالتزام بخفض استهلاك الطاقة بحلول عام 2030 من 20% إلى 17%، ولكن تم الإبقاء على الالتزام بخفض استهلاك الطاقة بنسبة 50% بحلول عام 2050؛ ورفع نسبة هدف خفض استهلاك الطاقة المتولدة من الوقود الأحفوري بحلول عام 2030، من 30% إلى 40%.وقد أثار تراجع الحكومة الفرنسية عن أهدافها المناخية والبيئية، غضب العديد من لأوساط المشتغلة في مجالات تحويل الطاقة، التي قالت إن المقاصّات والمقايضات (Trade-offs)، لا تتماشى مع علم البيئة والمناخ، ولا مع أهداف خفض فاتورة الطاقة، فيما اعتبرت مجموعات الاقتصاد الأخضر، أن مفردات ولغة تحييد الكربون، مبهمة للغاية مقارنة مع التخفيضات الملموسة، وإن عدم وجود هدف محدد لخفض الانبعاثات قد فتح الباب أمام مقاربات التفافية مثل المقايضات، والتعويض. وقد اعتمد الاتحاد الأوروبي مقاربة تحييد الكربون كهدف يسعى إلى تحقيقه بحلول عام 2050، وبدأت بعض الدول تقليده، مثل نيوزيلندا، وكوستاريكا.اتفاق باريس لم ينص على شيء اسمه Carbon neutrality (حياد الكربون)، والاستشهاد في هذا المقام بالبند الأول من المادة الرابعة من الاتفاق التي تنص على «التوازن بين الانبعاثات البشرية المنشأ حسب مصادر انبعاثاتها وعمليات الإزالة بواسطة المصارف لغازات الدفيئة، كهدف يجب تحقيقه في النصف الثاني من هذا القرن»، لا يكفي للاتكاء عليه في تبرير اللجوء إليه، على النحو الذي فعلته الحكومة الفرنسية الحالية، أو على نحو ما أشار إليه نيكولاس برجمانز، الباحث في مركز التفكير المناخي الفرنسي (IDDIR)، لموقع Climate Home News، في إشادته بالخطوة الفرنسية. علماً بأن نص البند المشار إليه في المادة الرابعة يشدد على أن تحقيق هذا الهدف (التوازن بين الانبعاثات البشرية المنشأ وفقاً لمصادر انبعاثاتها وعمليات الإزالة بواسطة قنوات تصريف الغازات الدفيئة)، يشدد في تتمته على أن ذلك يجب أن يتم على «أساس العدالة والمساواة، وفي سياق التنمية المستدامة، وجهود القضاء على الفقر. الآن ما الذي يعنيه حياد الكربون، أو التوصل الى بصمة كربونية صافية؟ هو مصطلح حديث، دخل قاموس أوكسفورد الأمريكي في عام 2006، ويجري استخدامه للدلالة على جهود تحقيق صافي انبعاثات من خلال موازنة انبعاثات الكربون مع إزالة الكربون (في كثير من الأحيان عن طريق تعويض الكربون)، أو التخلص بصورة تامة من انبعاثات الكربون، بما يفضي للانتقال إلى»اقتصاد ما بعد الكربون«. ويستخدم المصطلح للدلالة على عمليات إطلاق غازات ثاني أوكسيد الكربون ذات الصلة بقطاعات النقل، وتوليد الطاقة، والعمليات الصناعية. وكما ترون، فإن الإبهام يلف هذا المفهوم الذي صار شائع الاستخدام في المقاربات الأوروبية المتعلقة بمعالجة مشكلة التخلص من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. ولسوف نعود بالتأكيد للإضاءة بصورة أكثر تفصيلاً على موضوع»حياد الكربون» في وقفة قادمة، لكننا نود الآن الإشارة بهذا الصدد إلى حقيقة في غاية الأهمية، وهي أننا نشهد، برسم عديد الحالات والمواقف، محاولات صريحة من جانب عدد من الدول الأوروبية (الأكثر حماساً ومزايدةً في قضية تغير المناخ، خصوصاً منها المتعلق بالتخفيف (Mitigation)، أي خفض الانبعاثات)، للتملص المتذاكي من التزاماتها اللفظية والخطية بخفض انبعاثاتها. ففرنسا، في الحالة التي نحن بصددها، تعيد النظر في التزاماتها بالتواريخ التي ضربتها سابقاً بالنسبة للتخفيف، وبالنسب المئوية لهذا التخفيف، حتى إن وزيرها المختص بشؤون البيئة وتغير المناخ قد استقال بسبب اكتشافه البون الشاسع بين الكلمات والأقوال. وقبل ذلك، كانت بولندا تطالب علناً، وفي مؤتمر الأطراف الأخير الذي أقيم على أراضيها، بمنحها فترة انتقالية للتخلص من استخدامها للفحم في توليد الطاقة.بمعنى أن ما تقدم ينطوي ضمنياً على إقرار بعدم واقعية جهود الأوروبيين لإخراج الوقود الأحفوري، خصوصاً النفط والفحم من معادلة مزيج الطاقة العالمية. * كاتب بحريني
مشاركة :