كشفت هيئة التنظيم والرقابة المصرفية التركية أن حالات الإفلاس والقروض المتعثرة وجهت ضربة شديدة إلى ربحية القطاع المصرفي، الذي انحدرت أرباحه في النصف الأول من العام بنسبة 14 بالمئة بمقارنة سنوية. وأرجع الخبراء سبب الانخفاض إلى تقلبات الأسواق المالية في تلك الفترة، إضافة إلى أن الكثير من القروض أصبح من المستحيل سدادها بسبب الأزمات الاقتصادية العميقة. وفي تفاصيل البيانات برزت أزمة بنك خلق، ثاني أكبر البنوك العامة في تركيا، الذي فاق انهيار أرباحه جميع البنوك وبفارق شاسع، بعد أن هبط بنسبة 67 بالمئة ليصل في النصف الأول إلى 600 مليون ليرة فقط، خاصة أن التراجع تفاقم في الربع الثاني من العام. وتعد تلك الأرباح ضئيلة جدا مقارنة بحجم أصول البنك المقدرة بنحو 440 مليار ليرة في وقت بلغت فيه استثماراته في القروض والأوراق المالية في الربع الثاني نحو 355 مليار ليرة. ويكشف تحليل البيانات سببين مختلفين وراء هذا الانخفاض في ربحية بنك خلق، الأول خسائره من النقد الأجنبي لنحو 1.8 مليار ليرة في النصف الأول وهو ما يفوق خسائره قبل عام بنحو 7 مرات. وتثير تلك الخسائر الكبيرة الحيرة والدهشة لأن سجلاته لا تشير إلى عجز في هذا الصدد. الجميع يعرف أن السلطات تستخدم البنوك الحكومية كباب خلفي لعمليات سوق الصرف الأجنبي، ولذلك تبدو خسائر بنك خلق القائم على رأس المال العام طبيعية. لكن عمليات الصرف الأجنبي المشبوهة، التي تجري وفق الحسابات السياسية لحزب العدالة والتنمية الحاكم، ليست كافية بمفردها لتفسيرها. السبب الثاني والأكبر من السابق في تقويض ربحية بنك خلق، هو القروض المتعثرة التي زادت في الأشهر الثلاثة الماضية بمقدار 3.15 مليار ليرة ما يعني زيادة صادمة في الديون المتعثرة تصل إلى 35 بالمئة. ويشير ذلك إلى أن تعثر الديون تضاعف أكثر بثلاث مرات من متوسط زيادة القروض المتعثرة لدى القطاع المصرفي البالغ 12 بالمئة وهو العامل الأكبر في انهيار ربحية بنك خلق. يا ترى ما هو السبب الذي أثر على أرباح البنك وقلصها إلى هذه المستويات الدنيا؟ بعض التفسير نجده في تقرير لوكالة رويترز يشير إلى مذكرة لبنك “وقف” الاستثماري تؤكد أنها ناتجة عن “تحويل مالي كبير أجراه بنك خلق في الربع الثاني من العام وكان له تأثير سلبي على صافي ربحه. وورد في المذكرة أن إقدام بنك خلق على تغيير طريقة حساب المخصصات أدى إلى إخفاء جزء من التأثير السلبي على ربحيته. وذكرت أن الزيادة في الخسائر التجارية أثرت سلبا على الإيرادات الأساسية للبنك أيضا. أما تقييم بنك “إيش” الاستثماري فأشار إلى أن العائد على أسهم بنك خلق يظل عند حدود 4 بالمئة، وهو مستوى منخفض للغاية. كما أشار التقييم إلى أن جودة أصول البنك تعرضت للضرر بسبب ضمّ ملف كبير في مجال الطاقة إلى حساباته. ويكشف التقرير الذي أعده مصرفان تركيّان كبيران، أحدهما خاص والآخر عام، عن أن قرضا خاصا وكبيرا كان من العوامل التي أثرت سلبا على ربحية البنك. وأرجع تقرير بنك وقف سبب الانخفاض إلى تحويل كبير جرى لسداد قروض متعثرة، في حين أن بنك إيش يؤكد أن التحويل ناتج عن ملف كبير خاص بقطاع الطاقة. وتثير تلك التقارير التي انتشرت في السوق سؤالا عن صاحب تلك القروض المتعثرة لبنك خلق؟ ويقود البحث عن إجابات مباشرة إلى الأرشيف والنتائج التي وردت في تقرير محكمة الحسابات، الذي يعود لعام 2012. ويذكر التقرير أن البنك قدم قرضا بقيمة 450 مليون دولار لشركة تدعى يلدزلار هولدينغ. ويكشف أن أعضاء مجلس إدارة الشركة لم يكونوا يدفعون حتى ديون بطاقات الائتمان التابعة لهم. وتقر محكمة الحسابات بأن ذلك القرض المقدم من بنك خلق إلى شركة يلدزلار، التي لمع اسمها خلال فترة حكم حزب العدالة والتنمية متعثر جدا ويصعب سداده. وأدى ذلك إلى جدل كبير لأن محكمة الحسابات تؤكد عدم سداد يلدزلار للقروض منذ فترة طويلة. ورغم ذلك قام البنك بتمديد مدة استحقاق القروض مرات عديدة، بل إن المحكمة أكدت أن البنك قدم لها قروضا إضافية مقابل ضمانات غير صالحة. وتقول إن بعض الضمانات كانت مقابل عقارات تعود ملكيتها لخزانة الدولة أصلاً. ويظهر تقرير محكمة الحسابات أيضا استحالة مصادرة ممتلكات الشركة في حالة عجزها عن سداد ديونها؛ لأن بنك “آك” الخاص هو الآخر قدم قروضا للشركة، مع رهن تأميني من الدرجة الأولى على جميع أصوله. ولذلك فإن بنك خلق مباشرة سيواجه خسائر كبيرة في حالة إفلاس يلدزلار. وقد انتقلت هذه القضية إلى وسائل الإعلام في عام 2013، لكن المديرية العامة لبنك خلق نفت دائما وجود أي مشكلة في قروضه المقدمة لمجموعة يلدزلار. وفعل الشيء ذاته مسؤولو حزب العدالة والتنمية. ويبدو أن الأرقام الواردة في الميزانية العمومية لبنك خلق أضفت الطابع الرسمي على ذلك التعثر والخسارة الكبيرة التي تعرض لها، وهو ما تؤكده تحليلات الخبراء المصرفيين. ونصل الآن إلى بقية القصة التي تسبّبت في خسارة بنك خلق لنحو 500 مليون دولار وأبطال تلك القصة. الموقع الرسمي لشركة يلدزلار يؤكد أنها لا تزال تواصل أعمالها في قطاع الطاقة والبترول والمناجم والسيراميك والخدمات، رغم جميع المشاكل التي واجهتها في السنوات الماضية. وبادرت قناة أي.تي.في المملوكة لعائلة أردوغان العام الماضي إلى تقديم صباح الدين يلدز رئيس يلدزلار كرجل أعمال ناجح وأشادت بمشاريعه، وهي تشير إلى استحواذها على شركة “أتي” للفضة من خلال الخصخصة. وأشارت القناة إلى حصول يلدزلار على 2229 ترخيصا للتنقيب عن المعادن في أراضٍ تعادل 3.8 بالمئة من مساحة تركيا. ولا توجد حاليا معلومات عن مصير تلك التراخيص. ولذلك تزداد صعوبة تفسير تعثر القروض التي حصلت عليها الشركة من بنك خلق لأنه كان بمقدورها تحقيق أرباح من خلال تلك التراخيص. في المقابل استطاع بنك “آك” الذي قدم هو الآخر قروضا لمحطة “عثمان غازي” لتوليد الطاقة التابعة لمجموعة يلدزلار، تحصيل كل ديونه منها تقريبا، عن طريق الاستيلاء على الضمانات والعمليات المالية المختلفة. ويشغل المدير العام السابق لبنك خلق حسين أيدين الذي قدم تلك القروض للشركة، حاليا منصب المدير العام لبنك “زراعة” أكبر بنك في تركيا، ويرأس أيضا مجلس إدارة اتحاد المصارف. كما أن أيدين يأتي في مقدمة البيروقراطيين الداعمين لسياسات حكومة حزب العدالة والتنمية في القطاع المصرفي ووسائل الإعلام التابعة لها. وأقدمت الحكومة التركية هذا العام على إعادة رسملة بنك خلق، الذي تكبّد خسائر تكاد تصل إلى 500 مليون دولار بسبب القرض المتعثر، بحجة تعرض رأس ماله للضعف. واقترضت وزارة الخزانة من خلال بيع سندات بقيمة 3.3 مليار يورو، مع آجال استحقاق مدتها خمس سنوات، وفائدة قدرها 4.60 بالمئة، من أجل وضع تلك الأموال في البنوك العامة. وقد تم تحويل 900 مليون يورو من تلك الأموال إلى بنك خلق باعتباره بنكا مملوكا للدولة. وعلى ذلك سوف يصل إجمالي رأس مال البنك إلى ما مجموعه 1.107 مليار يورو مع الفائدة في عام 2024. أما الذين كشفوا الغطاء قبل سنوات عن اختلاس شركة يلدزلار لهذا الحجم الكبير من القروض، وأعدوا تقرير محكمة الحسابات في هذا الصدد، وأرسلوه إلى البرلمان للنقاش فمصيرهم لا يزال مجهولا.
مشاركة :