إعداد: عبير حسين سحب كثيفة من الدخان الأسود أحالت ظهيرة مدينة ساوباولو البرازيلية إلى ظلام دامس، وألقت في وجه البشرية تحذيراً شديد اللهجة لما ينتظرها من مستقبل «ملوث» في حال استمرار حرائق غابات الأمازون المطيرة التي يعتبرها العلماء «رئة الأرض»؛ لأنها تمده بحوالي 20% من الأكسجين. وبينما يهتم العالم بمتابعة التداعيات الكارثية للنيران المستعرة في مساحات شاسعة من «الأمازون»، ومخاطرها بسبب زيادة الانبعاثات الكربونية المسؤولة عن ارتفاع معدلات الاحتباس الحراري على نحو يُنذر بخطر انقراض الحضارة التي أسسها البشر، يكون من المفيد التوقف للتعرف إلى أسباب هذه الحرائق، لتكون الخطوة الأولى الصحيحة لمناقشة أفضل السبل لمواجهتها. تكشف الحرائق عن «غابة» أخرى معقدة تمرح فيها «ضواري بشرية» مختلفة الدوافع والأهداف، تقف سبباً مباشراً لما يحدث هناك؛ إذ لم يعد خافياً على أحد الدور الذي يلعبه «صائدو الأراضي» الذين يضعون أيديهم على مساحات من الغابات، ويعملون على إزالتها حتى ترتفع أسعارها، والمدعومون من اللوبيات الزراعية والصناعية المعقدة والمتداخلة في دائرة مراكز صناعة القرار في دول تمتد فيها مساحة الغابات، لتعظيم العوائد الاقتصادية من تلك الأراضي حتى لو عن طريق استخراج المعادن. يضاف إليهم المزارعون الذين يعمدون إلى الطرق التقليدية لتطهير أراضيهم في موسم الحصاد، وإلى جانبهم مربو الماشية الذين يجرفون الأراضي من أجل تجارة تدر عليهم مليارات الدولارات في عالم لا يمكنه الاستغناء عن تناول اللحوم. وفي الوقت الذي يُلقي فيه البعض اللوم في كارثة الحرائق على التغير المناخي، وموسم الجفاف الشديد الذي تشهده غابات الأمازون، كانت الحقيقة الصادمة التي أعلنها كريستيان بويرير، مدير برنامج منظمة «أمازون وواتش» غير الحكومية، والتي تشير إلى أن 99% من إجمال الحرائق المستعرة بسبب أنشطة بشرية. ويعتبر حوض الأمازون مصدراً حيوياً لكبح مستوى الاحتباس الحراري حول العالم، حيث تمتص غاباته ملايين الأطنان من انبعاثات الكربون كل عام. وعند قطع الأشجار أو حرقها، ينطلق الكربون الذي تخزنه تلك الأشجار إلى الجو. ووفقاً لصندوق حماية الحياة البرية العالمي، فإن زيادة إزالة الغابات بالتنسيق مع ظروف بيئية أخرى، يمكنه أن يتسبب في تحول منطقة الأمازون إلى مصدر لثاني أكسيد الكربون، بدلاً من دورها التقليدي في امتصاصه؛ إذ تخزن المنطقة ما لا يقل عن 75 مليار طن من الكربون في أشجارها، وهي الكمية التي تفقدها باحتراقها. وبدلاً من الحفاظ على الكوكب، ستشارك الأمازون في إيذاء الأرض عن طريق إصدار كميات أكبر من ثاني أكسيد الكربون. وبحسب خرائط خدمة كوبرنيكوس «كامز» لمراقبة المناخ التابعة للاتحاد الأوروبي، وصلت معدلات الانبعاثات الكربونية بسبب حرائق الأمازون الأخيرة إلى 228 ميجا طن، وهو الرقم الأعلى منذ 2010. يستحضر مفهوم الغابة المطيرة صوراً لمناخ رطب وأمطاراً مستمرة، لكن تمر غابات الأمازون بموسم جاف في شهري يوليو وأغسطس من كل عام، وهو أيضاً موسم حرائق الغابات. وكانت غابات الأمازون المطيرة مقاومة للحرائق نسبياً على مدار تاريخها، بسبب بيئتها الطبيعية التي تتميز بالرطوبة. أما حرائق اليوم فتزداد تواتراً بسبب ازدياد إزالة الغابات. وعندما تقل كمية المياه التي تصل إلى الأشجار أثناء الجفاف، يسقط المزيد من أوراقها أو تموت، وتصبح الأوراق بدون مظلة كثيفة من الأشجار للاحتفاظ بالرطوبة. كما تؤدي ممارسات القطع والحرق الانتقائي لأنواع محددة من الأشجار إلى تدمير تلك المظلة بشكل أكبر، ليؤدي هذا في نهاية المطاف إلى تعرض الغابات لدرجات الحرارة المرتفعة وبدء هذه الحرائق الهائلة. وقد أشار المعهد الوطني البرازيلي لأبحاث الفضاء (INPE) إلى اشتعال ما يقرب من 72.843 حريق هذا العام، بزيادة بنسبة 83% على العام الماضي، وهي النسبة الأعلى منذ 2013. وأوضح عالم المناخ البرازيلي كارلوس نوبير، أن حرائق هذا العام تتناسب مع النمط الزراعي الموسمي المعمول به؛ إذ ينتظر المزارعون موسم الجفاف لحرق وتطهير المناطق حتى تتمكن الماشية من الرعي. وقال: «معظم الحرائق بشرية، إما أن أصحاب الحيازات الصغيرة يحرقون القشور بعد الحصاد، أو يدمر الخاطفون غير الشرعيين للأراضي الأشجار حتى يتمكنوا من رفع قيمة الممتلكات التي يستولون عليها». وأضاف: «في يوليو الماضي، ارتفعت إزالة الغابات إلى مستوى لم نشهده منذ أكثر من عقد، ووفقاً لبيانات القمر الصناعي الأولية الصادرة عن «INPE»، تتم إزالة الأشجار بمعدل خمسة ملاعب كرة قدم كل دقيقة خلال الشهر الماضي، وفقدنا 2254 كيلومتراً مربعاً، بزيادة قدرها 278% على نفس الشهر من العام الماضي، وأعتقد أن هذا العام قد يكون الأول منذ 10 سنوات، حيث يتم فقدان 10000 كيلومتر مربع من الأمازون». وقال نيجل سيزر، خبير بيئة الغابات الاستوائية، كبير مسؤولي البرامج في تحالف الغابات المطيرة: «إزالة الغابات ليست جديدة ولا تقتصر على أمة واحدة، في جميع أنحاء العالم، هناك حاجة إلى الأراضي التي تم قطع أشجارها لتوسيع نطاق الزراعة وغيرها من الأنشطة، مثل تربية الماشية وإنتاج الصويا، هذه الأنشطة مسؤولة عن 80 إلى 90% من فقدان الغابات الاستوائية في جميع أنحاء العالم». وأشار تقرير أصدرته العام الماضي شبكة «Raisg» التي تضم مجموعة من الهيئات غير الحكومية في أمريكا اللاتينية، إلى زيادة كبيرة في أنشطة التعدين غير المشروعة في 18 من محميات السكان الأصليين في البرازيل. كما رصدت صوراً نشرتها شركة «بلانيت لابز» الأمريكية التي تستخدم 100 قمر صناعي لالتقاط صور يومية للأرض عن أنشطة في ثلاث مناطق عائدة لشعوب البرازيل الأصلية الأكثر تأثراً بالبحث الخفي والمستتر عن الذهب، وهي محميات كايابو وموندوروكو (في ولاية بارا)، ويانومامي (التي تقع في ولايتي رورايما وأمازوناس). وتبلغ مساحتها 248 ألف كيلومتر مربع، وهي مساحة تزيد على مساحة المملكة المتحدة، وتشمل بعضاً من أفضل مناطق حوض الأمازون. تجدر الإشارة إلى أن التعدين في حوض الأمازون يُجرى بطريقتين؛ الأولى باستخدام عوامات لغربلة قاع الأنهار بحثاً عن المعادن، والثانية عن طريق حفر المناجم. وتجري الثانية على مستوى صناعي واسع؛ إذ تستخدم فيها الجرافات لقطع الأشجار تاركة «ندباً» تمكن رؤيتها من الفضاء الخارجي
مشاركة :