صبحي حديدي يدرس علاقة التاريخ بالرواية في أعمال سردية

  • 8/25/2019
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

شغلت العلاقة الإشكالية بين الرواية والتاريخ، أو الشراكة والتنافر بينهما اهتمام العديد من النقاد العرب، المتخصصين والمعنيين بالسرد، وأثارت في السنوات الأخيرة سجالا وجدلا اصطلاحيا ومفهوميا مفتوحا بينهم تبدّى في كتب وأبحاث ومقالات ومؤتمرات وندوات. وكانت هذه العلاقة مثار نقاش عميق دار في الغرب بين النقاد والفلاسفة منذ عقود خلت، أفضى إلى إجابات مختلفة، طبقا لاختلاف توجهاتهم ورؤاهم حول طبيعة المدونة التاريخية وطبيعة المدونة السّرديّة. من بين النقاد العرب الذين شغلتهم هذه العلاقة، والمفهوم الذي يؤطرها، عبدالله إبراهيم، سعيد يقطين، فاضل ثامر، فخري صالح، نادية هناوي، وصبحي حديدي. دعا عبدالله إبراهيم، في كتابه “التخيّل التاريخي” إلى إحلال مصطلح “التخيّل التاريخي” (الذي يعني المادة التاريخية المتشكلة بواسطة السرد، وقد انقطعت عن وظيفتها التوثيقية والوصفية وأصبحت تؤدي وظيفة جمالية ورمزية) محل مصطلح “الرواية التاريخية”، مؤكدا أن هذا الإحلال سوف يدفع بالكتابة السردية إلى تخطي مشكلة الأنواع الأدبية وحدودها ووظائفها، ويفكك ثنائية الرواية والتاريخ، ويعيد دمجهما في هوية سردية جديدة، فلا يرهن نفسه لأيّ منهما، كما أنه سوف يحيّد أمر البحث في مقدار خضوع التخيلات السردية لمبدأ مطابقة المرجعيات التاريخية، فينفتح على كتابة لا تحمل وقائع التاريخ ولا تعرّفها، إنما تبحث في طياتها عن العبر المتناظرة بين الماضي والحاضر، وبين التماثلات الرمزية فيما بينهما، فضلا عن استيحاء التأملات والمصائر والتوترات والانهيارات القيمية والتطلعات الكبرى، فتجعل منها أطرا ناظمة لأحداثها ودلالاتها. يسعى صبحي حديدي إلى دراسة علاقة التاريخ بالأدب عبر أسئلة من قبيل: هل توجد إشكالية "تنازعية" بين التاريخ والأدب؟ وهل في وسع وقائع الأرشيف أن تُضارب، أو تتضارب مع فنون السرد ومجازاته؟ وهل توجد رابطة، أو سلسلة روابط بين النصّ الروائي والنصّ التاريخي؟ وخالف سعيد يقطين دعوة عبدالله إبراهيم، ذاهبا إلى أن مفهوم “التخيّل التاريخي” محاولة ملتبسة لتقديمها نوعا بديلا عن مفهوم “الرواية التاريخية”، الذي هو مفهوم نوعي لاتصاله بتحقق سردي له تاريخ في الإنجاز الروائي العربي والغربي. وجزم يقطين أنه لا يمكن لأيّ كان أن يدّعي أنه سيلغيه من التاريخ، ويحلّ محله مفهوما آخر، إذ أننا عندما نقول “رواية تاريخية” فمعنى ذلك أننا خرجنا من التاريخ باعتباره “علما” إلى الرواية بصفتها “تخييلا”، أو “تخيّلا”. وخلص يقطين إلى إن هذا الإحلال لا يقدّم شيئا جديدا. وقدم فاضل ثامر محاولة في قراءة الرواية العربية الحداثية وما بعد الحداثية في تعاملها مع التاريخ، بين الامتثال لفتنة التخييل كليا وإعلان القطيعة مع ما هو تاريخي ورسمي، وبين محاولة خلق تاريخ بديل يشاكس التاريخ الرسمي الذي هو تاريخ الملوك والسلاطين والحكام المنتصرين. وركز ثامر كثيرا على الميتاسرد من الناحية الاصطلاحية، مجترحا للرواية التي تتناول التاريخ مصطلح “رواية الميتاسرد التاريخي” أو “الرواية الميتاسردية التاريخية”. لكن الناقد لم يستقر على مصطلح واحد، فقد استخدم تارة “الميتارواية التاريخية”، وتارة ثانية “الرواية التاريخية ما بعد الحداثية”، وتارة ثالثة “الميتاسرد التاريخي”، مُقِرّا بأن ثمة تنازعا دائما بين التاريخي والمتخيّل بوصفهما سلطتين. كما وجد أن مصطلح “التخيّل التاريخي”، الذي اقترحه عبدالله إبراهيم، يثير لبسا وتساؤلات. ورأى فخري صالح أن اللجوء إلى التاريخ ليس هاجسا سرديا شكليا فقط، بل هو في الأساس هاجس سياسي متصل بأزمة الهوية والتجربة الوجودية التي يخوضها الإنسان العربي المعاصر. ولا يتصل بحث الروائي في مادة التاريخ بمحاولة تجديد روح كتابته، أو رغبة في إعادة تأويل التاريخ مجددا، بل يتصل في الأساس بمحاولة البحث عن الأوّليات (الميكانيزمات) التي حركت ذلك التاريخ، ويمكن أن تكون هي نفسها التي تحرك الحاضر. فعمل الروائي يشتبك مع عمل المؤرخ الذي يسعى إلى تأويل التاريخ، لكنه يتجاوزه، في خطوة متقدمة إلى الأمام، ليؤوّل الحاضر ويقع على تفسير لمشكلاته المركبة ومعضلاته المعقدة التي لا تفسرها المعارف السياسية والاستراتيجية وعلوم النفس والاجتماع. وتبنت نادية هناوي مصطلح “رواية التاريخ”، الذي تقترحه كصيغة سردية، وفحصه ومقارنته مع مفاهيم وطروحات عربية وأجنبية. إن “رواية التاريخ”، في رأيها، تتعالى على المعتاد والمطروح، من زاوية أنها ليست انحيازا للشكل كما هو الحال في الرواية الميتاسردية، وهي لا تغلب الإطار الموضوعي كما هو شأن الرواية التاريخية والرواية الواقعية، بل هي أجناسية سردية بغيتها الأساس هي الاشتغال الشكلي والموضوعي معا، في إطار ما بعد حداثي يتبنى طروحات فلسفية معينة. لكن هناوي تعترف بأن إثبات مصطلح “رواية التاريخ” على مصطلحات أخرى مثل “رواية محكي التاريخ”، أو “رواية المتخيل التاريخي”، أو “الرواية الميتاتاريخية” وغيرها أمر شبه محال لأن ذلك يتطلب توافقا نقديا عربيا من نواح مختلفة تتصل نظريا بالترجمة والفلسفة والتاريخ واللغة والنقد والسرد. ومع ذلك أقرت هناوي بأن إمكانية اجتراح توصيف ما، والاهتداء إليه، لا يفسد في المسألة أمرا، ولا يصادر توجهات معينة، كما لا يناقض توجهات أخرى. في كتابه “الرواية والتاريخ: وقائع الأرشيف ومجازات السرد”، الصادر حديثا عن منشورات الأهلية في عمان، يسعى صبحي حديدي إلى دراسة علاقة التاريخ بالأدب عبر أسئلة من قبيل: هل توجد إشكالية “تنازعية” بين التاريخ والأدب؟ وهل في وسع وقائع الأرشيف أن تُضارب، أو تتضارب مع فنون السرد ومجازاته؟ وهل توجد رابطة، أو سلسلة روابط بين النصّ الروائي والنصّ التاريخي؟ ويرى حديدي أنه مع منجزات نقاد غربيين من أمثال جورج لوكاش ووالتر بنيامين ورايموند وليامز في تعميق صلة الرواية بالتاريخ، وأشغال المدرسة التاريخانية الجديدة في نقد مرجعية أيّ “حقيقة” في أيّ تاريخ كوني، بات متاحا أمام النظرية النقدية المعاصرة أن تعيد تثمين سرديات الشعوب التي طُردت من فردوس الحقيقة الكونية (بوصفها “شعوبًا بلا تاريخ” على حدّ تعبير هيغل)، وأن ترى الحكايات الكبرى التي أُخرست في الماضي وهي تنهض من رماد، وتجثم كالكابوس على حاضر الأحياء. وفي ضوء هذه الخلاصة يتضمن كتاب صبحي حديدي قراءات في أعمال سردية لسليم بركات، آسيا جبار، أهداف سويف، هدى بركات، إلياس خوري، محمد خضير، سعيد الكفراوي، نجوى بركات، صلاح الوديع، جيمس جويس، ياسوناري كاواباتا، ياشار كمال، أمبرتو إيكو، طارق علي، ف. س. نايبول، وإيمري كيرتش. مع منجزات نقاد غربيين من أمثال جورج لوكاش ووالتر بنيامين ورايموند وليامز في تعميق صلة الرواية بالتاريخ، وأشغال المدرسة التاريخانية الجديدة في نقد مرجعية أيّ "حقيقة" في أيّ تاريخ كوني، بات متاحا أمام النظرية النقدية المعاصرة أن تعيد تثمين سرديات الشعوب التي ُردت من فردوس الحقيقة الكونية في تقديمه للكتاب، يوضح حديدي أن الدراسات والمقالات والمراجعات التي يتضمنها كُتبت في فترات متباعدة، ونهضت من ثم على جملة قناعات كان لا بدّ للزمن أن يلعب دوره في تعميقها وتشذيبها وتعديلها، وربما تبديلها؛ وإنْ في حدود يجدها غير حاسمة. وقد نُشرت في دوريات وصحف، أو قُدّمت في ندوات ومؤتمرات شتى. ويقف حديدي، في سياق تساؤله عمّا إذا كانت توجد رابطة، أو سلسلة روابط، تكاملية أو تصالحية بين النصّ الروائي والنصّ التاريخي، على أربع إجابات قدّمتها نظريات الأدب ونظريات التاريخ هي: النصوص الأدبية ليست بِنْت زمن محدد لأنها كونية وعابرة للتاريخ، إذا لم تكن مجافية له. السياق التاريخي للعمل الأدبي، أي تلك الظروف التي اكتنفت إنجازه، سواء لجهة ظروف المجتمع أم ظروف الأديب عامل تكويني ضروري لفهم العمل الأدبي. الأعمال الأدبية يمكن، بل وينبغي، أن تساعدنا في فهم الزمن الذي تصفه أو تتكئ عليه، سواء لجهة المجتمع عمومًا، أو لجهة تيارات وأساليب الأدب في العصر المَعْني. النصوص الأدبية مرتبطة بخطابات وبُنى بلاغية أخرى. إنها جزء من تاريخ ما يزال في طور الكتابة. والعلاقة الحقّة لا تقوم على تناظر الأدب والتاريخ، بل على الأدب في التاريخ.

مشاركة :