يضع البعض مفهوم التنوير في غير سياقه المنشأ عليه.. ويظن به أنه عكس الجهل والظلاميات.. فالمجتمع الذي يتمسك بالدين أو التقاليد قد يراه أولئك مقيداً بقيود رجعية تسهم في ظلاميته وقد ينطلقون من فلسفة" التنوير حركة ثقافية تاريخية قامت بالدفاع عن العقلانية ومبادئها كوسائل لتأسيس النظام الشرعي للأخلاق والمعرفة بدلاً من القيم الراشدة". ومن هنا نجد أن عصر التنوير هو بداية ظهور الأفكار المتعلقة بتطبيق مفاهيم مختلفة فيظن رواد هذا الحراك أن مهمتهم قيادة العالم إلى التطور والتحديث عبر عزل التقاليد الدينية والثقافية القديمة والأفكار اللا عقلانية كما يرونها ضمن فترة زمنية اسموها "بالعصور المظلمة". يفترض أن يكون التنوير مسلطاً على البقع المظلمة الخالية من الفهم لا أن يسلط على بقع مليئة بالضوء كما يراها صاحبها.. ولا يلتصق بادعاءات، مطالب خاصة، ويبرز رغبات فئة على فئة، ويحاول خلاله الانتصار الذاتي على القطب الآخر، ويظهر التفوق ولو بكذب سيكون تنويراً أحادياً يتناقض مع فكرة الضوء والنور في إتاحة الحريات للجميع. التنوير يجب ألا ينكفئ على مزاجية الاختيار وإغفال مزاج الآخر.. وألا يبنى على قاعدة "فعل ما يريد وقت ما يريد كيفما يريد بالمكان الذي يريد".. كما يجب أن نفرق بين خصوصية الفرد ومكانه وزمانه وبين مشتركات وعموميات وصالح المجتمع.. لذا فإن التنوير الذي يقود إلى انحلال القيم الفاضلة وانحراف الأخلاق هو تظليم وتعتيم.. كما أن التدين الذي يقود إلى التشدد والمغالاة هو تطرف وكلاهما مرفوض بقوة.. لكننا نلمس في واقعنا من هذا وذاك. أزمة المصطلحات أوقعت لبساً هائلاً في استيعاب حقيقة الحرية الواجبة لا الحرية المطلوبة.. فلون الحرية يختلف تماماً في لوحات العقول بحسب قناعاتها، وعلمها، وفهمها.. فرأى الكثير أن الحرية هي إحدى مكونات التنوير ولا يستقيم سلوك متنور إلا بمسطرة الحرية أياً كانت. لذا فالبعض يرقق استخدام الألفاظ ليعبر عن الانفلات بالتنوير، والتشدد بالتحوط.. كما تعجن الحياة بما يسمى بالتطبيع "العيشة الطبيعية كما يصفها البعض" لكي يبرر سلوكه، ويمرر قناعاته. ويواجهنا اليوم معضلة ضخمة تكمن في أن السلوك يسبق التفكير لدينا فالكثير مستعد أن يفعل أمراً قبل أن يفكر أو يقيّم هذا السلوك، أو يسأل هل هو مناسب، مقبول. من أسوأ الأمور أن يتبنى أحدهم مفهوماً، يدعيه، ويستجدي دعمه، ويبحث عن فرص التنفيذ، ويرى نفسه على حق وغيره على باطل.. ويدعو له لكي يصل فقط لرغباته.. وعندما تدخل عليه رغبات الآخر يحاول عزلها، ويقلل منها، ويطعن فيها، وينحّي مطالب الغير ليفوز هو وحده واتباعه.. مع ذلك يتغنى بأن الساحة للجميع وتقبل الخيارات المختلفة.. المجتمع يحتاج إلى أفق قيمي يضمن الحرية ذات المسؤولية المعتبرة في العلاقات بين أفراده وشرائحه.. الحرية دون إدراك في حقيقتها انفلات لأنها تكسر القيود المفروضة على السلوك الذاتي الميّال لإشباع الأهواء، وسد الرغبات فقط.. لذا من يلبسها ستعرّيه لاحقاً.. لذا حينما تريد أن تكون حراً يجب قبول الآخر أن يكون حراً.
مشاركة :