خلق مهرجان “راست أنجلة” في دورته الثالثة التي تواصلت على امتداد أربعة أيام متعاقبة (من 22 وحتى 25 أغسطس)، “ألياته الخاصة، مشكلا مهرجانا موسيقيا للأغنية البديلة. موسيقى تحرر نفسها من أي نوع من أنواع الانتماء، أو شكل من أشكال اللعب، أو العائلة الموسيقية، أو القواعد التي يجب احترامها، وهو أيضا مساحة للتكوين والإنتاج ونشر هذه الأنماط الموسيقية البديلة”، هكذا قال ضياء فالحي مدير مهرجان “راست أنجلة” مُعرّفا الأيام. وهذه الحرية وهذا المزيج الموسيقي جعل من مهرجان “راست أنجلة” الذي عاشت على وقعه مدينة بنزرت (شمال تونس) مهرجانا فريدا، خاصة مع وجود مجموعات من مناطق تونسية متنوعة لتقدم أساليب موسيقية مختلفة. ورأس أنجلة هي أعلى قمة تطل على البحر في أفريقيا، تحوّلت إلى نقطة استقطاب للسائح التونسي والأجنبي كما أصبحت محط اهتمام العديد من الناشطين في المجال السياحي والفاعلين في الحقل الثقافي ومنظّمي المهرجانات الذين اختاروا هذه النقطة لتنظيم تظاهراتهم وإحيائها لما تكتسيه من رمزيّة جغرافية ومناظر طبيعية خلابة، أما “راست” فهو مقام شرقي يعتبره البعض المقام الرئيسي في الموسيقى الشرقية، ويعتبر أكثرها وضوحا في الشخصية، والمعبّر عنها، ويعتبر من المقامات المفضلة لتلاوة الأذان لما فيه من وقار وجدية. فكلمة راست في اللغة الكردية تعني المستقيم أو الحقيقي. ورغم أن المهرجان لم يقدّم المستقيم والحقيقي في المقام إلاّ أنّه أنتج موسيقى بديلة ومُغايرة عن السائد والمسموع قدّمتها مجموعات موسيقية شابة من جل المناطق التونسية كفرقة ميعاد القادمة من القصرين (وسط تونس) ومجموعة “طَرڨْ” الجنوبية علاوة على فرقة مدرسة الزهراء للموسيقى ببنزرت، مقدمين القناوة والسطمبالي والمزود والبلوز والجاز والفانك وغيرها من الموسيقات المحلية التونسية والعالمية، في إحياء للفضاء العام من خلال إكساء الساحات العمومية لمدينة بنزرت وجبالها وسفوحها وشواطئها أيضا بالنغمات والموسيقات والجماليات. وتضمنّت الدورة الثالثة من المهرجان إقامة كرنفال موسيقي جاب شوارع مدينة بنزرت، إضافة إلى تنظيم مخيّم فنّي بمنطقة رأس أنجلة تضمن العديد من الأنشطة الثقافية والرياضية علاوة على العروض الموسيقية. أما العروض الرسمية للمهرجان فأقيمت بميناء المرسى القديم ببنزرت وسط تفاعل جماهيري شعبي كبير، حيث رقص وغنى الجميع على الإيقاعات والنغمات المقدّمة من الفرق المُشاركة في المهرجان. رغم أن المهرجان لم يقدّم المستقيم والحقيقي في المقام إلاّ أنّه أنتج موسيقى بديلة ومُغايرة عن السائد والمسموع قدّمتها مجموعات موسيقية شابة من جل المناطق التونسية وافتتح المهرجان في الثاني والعشرين من أغسطس الجاري بعرض “زَي” لصابرين جينحاني، وهي فنانة تونسية شابة تجمع بين الغناء والفن التشكيلي، تغني التراث الثقافي التونسي الممزوج بموسيقات العالم، ليختتم في الخامس والعشرين منه بعرض “مجموعة أيتما” وهو مشروع موسيقي بكلمات من العامية التونسية، تعبّر عن إكراهات العصر الراهن الأخلاقية والاجتماعية والسياسية، حيث تروي كلمات وألحان نور الحركاتي انعدام الثقة بين الناس وتردي العلاقات بين أفراد المجتمع وتجردهم من الإنسانية. وبين حفلي الافتتاح والاختتام تنوعّت الأنماط الموسيقية، حيث قدّم نضال اليحياوي تجربته الموسيقية الجديدة “الشاوية” المُستلهمة من موسيقى “الشاوي” البربرية بعيدا عن التصنيفات الفنية من قبيل “عصري” و“تقليدي”، وهو الذي يرى أن “شاوية” هي ليست فقط غوصا في التراث الموسيقي الشاوي وإنما أيضا بحث في أصوات جديدة ودفعا لأنغام الماضي والحاضر في شكل مستحدث. ونضال اليحياوي عرفه الجمهور التونسي من خلال أولى تجاربه الموسيقية "برقو 08"، التي قدّم فيها سجل الغناء الصالحي بجهة سليانة (شمال غرب تونس) ثم عبر تجربته الثانية “حلفاوين الشعبية” التي أعطى خلالها الأولوية لموسيقی المزود (موسيقى المهمّشين بتونس). كما استعرض بلحسن ميهوب وفرقته من معين “سطامبالي” أفضل ما تغنى به زنوج تونس كـ”بابا بحري” و”سيدي سعد” وغيرها من الأغاني الملحمية التي تغنىّ بها زنوج تونس في أوائل القرن العشرين كتعبيرة فنية وصرخة موسيقية في وجه الأصفاد وسياط الجلّاد والعنصرية والعبودية. ومن بين العروض الهامة في “راست أنجلة” في دورته الثالثة أتى عرض “مدرسة الزهراء للموسيقى” ببنزرت التي تأسست في العام 2008، بإدارة الموسيقي محمد لطفي الغربي المتخرج من المعهد العالي للموسيقى بتونس، وهو عازف قيثارة ومغنّ وكاتب أغان أيضا، وقدّم طلّاب الفرقة مجموعة من أشهر أغاني الأفلام والمسلسلات العربية والأجنبية، بتوليفة موسيقية تنهل من التخت العربي والأوركستر الغربي يد بيد. مهرجان “راست أنجلة” في نسخته الثالثة بدأ يتلمّس مكانه في خارطة المهرجانات الموسيقية التونسية البديلة كـ”أيام قرطاج الموسيقية”، و”سيكا جاز”، و”الجاز في قرطاج” وغيرها من المهرجانات التونسية التي بدأت محلية لتشعّ مع تراكم الدورات إقليميا ودوليا، وما “راست أنجلة” إلاّ بداية الرأس الذي تليه بقية أعضاء الجسم الموسيقي التونسي الذي يودّ أن يتشكّل ويشعّ أكثر فأكثر على العالم بمحليّته الباذخة كلمة ولحنا، بل ورقصا أيضا.
مشاركة :