مسرحية أردنية تصور الربيع العربي على سطح رجراج

  • 8/29/2019
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

تسنت لي، ولغيري بالتأكيد، مشاهدة تجارب إخراجية وأدائية متباينة، خلال سنين طويلة، لأكثر من مسرحية واحدة لشكسبير وتشيخوف وسعدالله ونوس ولوركا وسلافومير ميروجبك، وغيرهم من كتّاب المسرح، فكان لكل تجربة من تلك التجارب منحى وتلقِّ مختلفان. أقول هذا بعد مشاهدتي لتجربة إخراجية ثانية لمسرحية “العرس الوحشي”، التي كيّفها الكاتب العراقي فلاح شاكر عن رواية بالعنوان نفسه للروائي الفرنسي يان كفلك، وصاحب التجربة هو المخرج الأردني عبدالكريم الجراح، قدمها في مهرجان المسرح الأردني الثالث والعشرين، ثم أعاد تقديمها مؤخرا. الاغتصاب والاحتلال موضوعة المسرحية هي “الاغتصاب”، ومن المعروف أنها موضوعة حظيت باهتمام العديد من كتاب الرواية والقصة والمسرح والسينما في العالم، سواء على المستوى الواقعي أو الرمزي (الفردي-الجماعي). تدور أحداث الرواية المكيّفة عنها المسرحية، حول جندي أميركي في إحدى الوحدات التي كانت تخدم في فرنسا. وقبل أن تغادر وحدته عائدة إلى أميركا بيوم واحد، يصطحب صديقته الصغيرة في رحلة توديعية، لكنه يميل بعربته العسكرية إلى مكان منعزل ينتظره فيه اثنان من زملائه في الوحدة، وهناك يقوم الجنود الثلاثة باغتصاب الصبية، تاركين بذرة ملعونة وملتبسة في أحشائها، إلاّ أن محاولات التخلص من الجنين تفشل، فيأتي المولود وتعجز الأم عن معرفة مَن هو أبوه من بين المغتصبين الثلاثة. وتحاول قتله مرات عديدة فلا تنجح، وتعامله بقسوة مفرطة ليعيش فصاميا معزولا ومشردا. وتنتهي الرواية بمقتل الأم على يد ابنها خنقا في البحر كطريقة وحيدة لمعانقتها للمرة الأولى والأخيرة. حدث "الاغتصاب" يتحول من علامة صغرى، أي جريمة ضحيتها فرد واحد، إلى علامة كبرى حول استباحة بلد كامل لم يشأ فلاح شاكر تناول ظاهرة الاغتصاب في نصه بمنحى واقعي تقليدي، بل عمد إلى خلق واقعة تقوم على الاحتمال، وربما مفارقة لأفق توقع المتلقي، وشحنها بقوة سيميائية ليرتفع بها من إطارها المرجعي-الفردي إلى مستوى استعاري-جمعي، فالصبية لديه يغتصبها ثلاثة من الجنود المارينز خلال الاحتلال الأميركي للعراق، ويتحول حدث “الاغتصاب” من علامة صغرى، أي جريمة اغتصاب ضحيتها فرد واحد، إلى علامة كبرى تشير إلى استباحة بلد بكامله، ولذا فإن المتلقي يتعاطف مع تنكر الأم لابنها، ويتفهم وموقفها منه، فهو هنا ليس العصفور الذي حملته الشجرة المقطوعة بفأس الحطاب، كما يحاول أن يشبّه نفسه لتليين قلب أمه واستمالتها إليه، بل الدمار الذي زرعه المغتصب-المحتل في الوطن، والتركة المشؤومة التي خلفها المارينز وراءهم لأرض كان شعبها يحلم بالحرية والانعتاق. لقد صاغ فلاح شاكر دراما مسرحية موازية للحبكة الروائية التي رسمها يان كفلك، ناسجا عالمها بخيوط تحمل خصوصيته من حيث بناء الفعل المتوتر، والصراع المتأجج بين الرغبات والهواجس والعواطف الإنسانية العميقة، المتناقضة حينا والمتقاربة حينا آخر، وكأن أطرافها في مباراة كونية، يتصارعون للسيطرة على منصة الحضور الكوني، حيث يتجلى التوتر بين الأم وابنها حادا، ساخنا، يدفع العاطفة إلى التأجج بالحيرة، والعقل إلى نسيان مغامرة المنطق، فلا يبدأ أحدهما حتى يبدأ الثاني، يضاهيه في السيطرة على بنية الفعل المسرحي، لكن تبقى للأم سطوة الحضور في ذلك التجاذب الساخن بين المريض والممرضة، بين المحب الهائم والمحبوبة الساخرة. تصور إخراجي لم تكن قراءة المخرج عبدالكريم الجراح للنص قراءة امتثالية، بل قراءة منتجة تقوم على رؤية مغايرة، وتأويلية تخطت النسق الدلالي للنص ونواياه، مقترحة مغزى مختلفا له، في محاولة لإسقاطه على الأوضاع التي تعيشها المنطقة العربية منذ بدء ما سمي بـ”الربيع العربي”. فالجنود الثلاثة في نص فلاح شاكر أصبحوا في العرض “عساكر ثلاثة” في إشارة إلى القوات العسكرية النظامية التي استخدمتها الأنظمة المستبدة لقمع الثورات والاحتجاجات الشعبية، واغتصاب أحلام المشاركين فيها. كل ذلك على خلفية نشيد “موطني” الشهير الذي استبدل المخرج فيه مفردة “موطني” بمفردتي “تكذبين” و”أكذب”! كما أصبح الفعل الدرامي يدور في طوف، أو عبّارة عائمة على سطح البحر، إشارة إلى أن الأحداث التي تشهدها دول “الربيع العربي” لا تقف على أرض صلبة، بل على سطح رجراج يمكن أن يغرق كل مَن يقف عليه. وصوّر المخرج كلا الشخصيتين: الأم (التي أدت دورها شفيقة الطل)، والابن (الذي أدى دوره زيد خليل مصطفى)، بوصفهما ضحيتين لجريمة واحدة. أي أنه خالف نص المؤلف الذي يشير إلى كون الابن (السفاح) جرثومة يمكن القبول بفكرة استئصالها. لكن هذه الإسقاطات بدت، في رأيي، غير مقنعة أنتجتها قراءة لوت عنق النص الأصلي، وغدرت بنسقه ونواياه الأساسية، وهي اغتصاب المحتل والغازي للعراق، وترك جرثومة في جسمه (عار الاحتلال) تسببت في كل ما آل إليه من خراب. كما أن إسناد المخرج دور الأم إلى ممثلة تجاوزت الستين من عمرها، والابن إلى ممثل يزيد عمره عن 35 سنة شكل تناقضا صارخا مع الشخصيتين، اللتين يُفترض أن تكونا أصغر من ذلك بكثير. تنتهي أحداث المسرحية، في نص المؤلف، بانهيار الجزء الذي تقف عليه الأم من العبارة، وسقوطها في النهر مع سماع أصوات رصاص. وحين يحاول الابن الإمساك بها لإنقاذها يسقط معها في الماء، وهو يردد بأعلى صوته “أماه.. أماه”، ثم يختلط صوته بالنشيد الوطني الأميركي. وترشح عن هذه النهاية التراجيدية الرمزية مدلولات عديدة تتعلق بموت طرفي المعادلة في عملية الاغتصاب (الاحتلال) بفعل حتمي لا اختياري، وهي من دون شك نهاية تتناغم ونوايا المؤلف النموذجي (الذي نفترض أنه يختلف عن المؤلف الفعلي) بوصفه استراتيجية نصية، في حين ينتهي عرض عبدالكريم الجراح بغرق العبارة، التي يتصارع على سطحها كل من الأم والابن، من خلال توجيه إضاءة زرقاء إلى الجمهور، وهبوط حامل أجهزة المصابيح في سقف المسرح فوق الشخصيتين، إشارة إلى المصير المؤلم الذي انتهيا إليه.

مشاركة :