يعد تزييف العملات جريمة ضاربة في أعماق التاريخ بقدم تاريخ العملات ذاته، ولا يوجد في تاريخ الإمبراطوريات إمبراطورية لم تصدر قانونا يعاقب بشدة كل من تسول له نفسه التلاعب بالعملات أو تزييفها. فتزييف العملة تحد سافر لسلطة الدولة، باعتبارها المحتكر الأساس لإصدار النقود وتحديد فئاتها وأشكالها، وتزييف العملة في حد ذاته يؤدي إلى حالة من الإرباك الاقتصادي، ويفقد الثقة بالمنظومة الاقتصادية ليس فقط من زاوية فشل الدولة في ضبط الأمور وتوجيهها بما يحقق مصالح المواطنين، لكن الأكثر خطورة أنه يفقد السكان ثقتهم ببعضهم بعضا عند التعامل والتداول المالي المباشر، تلك الثقة التي تعد حجر الأساس ليس فقط للنشاط التجاري، لكن لبقاء المجتمع ذاته وقدرته على مواصلة تعاونه وتفاعله الداخلي. في هذا الإطار، كان أحد أبرز مبررات المدافعين عن العملات المشفرة، أنها بخلاف العملات الحكومية لن يمكن تزييفها، إذ إن ما يصدر منها عدد محدود ومعروف سلفا، كما أن عملية إنتاجها ذاتها عبر مجموعة من الخوارزميات الرياضية تحول عمليا دون تعرضها للتزييف. إلا أن الواقع يكشف عن زيف تلك التوقعات، فقد نشرت منظمة صناعية صينية تدعمها الحكومة، تقريرا عن العملات المشفرة المزيفة في عام 2018، جاء فيه أنه تم اكتشاف 421 عملة مشفرة وهمية، 60 في المائة منها من أجهزة لإنتاج تلك العملات "الخوادم" توجد خارج الصين، ويضيف التقرير أن "العملات المشفرة المزيفة تظهر في كثير من الأحيان، ما يتسبب في خسائر كبيرة للمستثمرين". بالطبع، فإن دوافع تزييف العملات المشفرة هي ذاتها دوافع تزييف العملات منذ فجر التاريخ، وهو تحقيق الربح السريع، خاصة أن قيمة العملة الواحدة من "بيتكوين" على سبيل المثال تصل الآن إلى آلاف الدولارات "نحو 8315 دولارا للعملة الواحدة". لكن ما أبرز ملامح العملات المشفرة المزيفة التي يجعلها مختلفة عن غيرها من العملات المشفرة؟ يفسر ذلك لـ"الاقتصادية"، مارتين بيدفورد المختص المصرفي وأحد المضاربين في مجال العملات المشفرة حول تلك الملامح قائلا "يعتمد الأشخاص القائمون على عمليات تزييف العملات المشفرة نموذجا هرميا في تعاملاتهم، مدعين أن العملة التي تُتَداول ستولد عوائد مالية كبيرة، ومن ثم تنتقل من شخص إلى آخر وفقا لهذا المنطق، حتي يصطدم أحد المتعاملين بحقيقة أنها مزيفة، كما أن العملات المشفرة المزيفة ليس لديها أي كود حقيقي، ولا تمتلك "بلوك تشين" ولا يمكن توليد "بلوك تشين" لها، ولن تتداول في بورصات العملات المشفرة الشرعية، ولذلك تتداول في البورصات غير المسجلة". ويضيف بيدفورد، "العملات المشفرة المزيفة لا قيمة لها بالطبع وغير قانونية، وعديد من المنصات الشرعية المتعاملة في العملات المشفرة، لا تحتوي أي معلومات تجارية عن تلك العملات". بعيدا عن تلك الملامح، يصعب إن لم يستحِل في أغلب الأحيان تعويض من تعرضوا لعمليات الخداع، وتورطوا في شراء عملات تشفير مزيفة، فأغلب الخوادم التي تنتج تلك العملات تقع خارج الحدود الوطنية للبلدان التي تتداول فيها تلك العملات المشفرة، على سبيل المثال تتداول عملات مشفرة في اليابان، خوادمها توجد في قرى نائية في سيبيريا، وعملات أخرى تتداول في كوريا الجنوبية ويمكن أن تكون خوادمها في بلدان إفريقية. ويعد أنصار العملات المشفرة عمليات التزوير دليلا على أن هذا النوع من العملات، قد أفلح في بناء أرضية مستقرة نسبيا في أسواق المال والأعمال. لكنهم لا يخفون مخاوفهم من أن يؤدي استفحال تلك الظاهرة إلى توجيه ضربة قاسية لعالم العملات المشفرة، التي تعتمد قيمتها على تصور الأسواق لتمتعها بالأمن وقدرتها على التداول لثقة المتعاملين بها. لكن إلي أي مدى يمكن اعتبار تزوير العملات المشفرة ظاهرة؟ تعتقد الدكتورة كيرا برات أستاذة النقود والبنوك والاستشارية في بورصة لندن، أنه يصعب القول في الوقت الحالي على الأقل، إننا أمام ظاهرة خطيرة، وإن ما يُكتشف لا يزال يعد حالات فردية"، لكنها تشير إلى ضرورة التصدي السريع لتلك الحالات لتفادي استفحالها مستقبلا. وتضيف لـ"الاقتصادية"، أن "تزييف العملات المشفرة يمكن أن يوجه ضربة قاصمة إلى مستقبلها خاصة بين كبار المستثمرين وصناديق التحوط، لكن الوضع حتى الآن تحت السيطرة ويصعب وصفه بالظاهرة لأن عملية التزوير أو التزييف لا تزال صعبة بسبب العقبات التكنولوجية". وتستدرك الدكتورة كيرا برات قائلة، "إن التحدي الأبرز هو أن فكرة العملات المشفرة مبنية أساسا على غياب سلطة مركزية للرقابة، بخلاف العملات التقليدية المتداولة مثل الدولار أو الاسترليني، وتنامي التزوير في هذا المجال قد يتطلب التوجه نحو المركزية في عملية إصدار العملات المشفرة، وهو ما قد يفقدها أحد أبرز مميزاتها". في الواقع، فإن عددا من المختصين في مجال العملات المشفرة، يعتقدون أن العملات الافتراضية المزيفة ليست الخطر الداهم - على الأقل حاليا - الذي يجب التركيز عليه وإعطاؤه الأولوية، إنما الأكثر خطورة هو تنامي ظاهرة ما يعرف "بالإنفاق المزدوج". أندروا مار المختص الاستثماري يعد الإنفاق المزدوج خللا خطيرا في نظام النقد الرقمي أو ما يعرف بالعملات المشفرة، حيث يمكن إنفاق ذات الرمز المميز نفسه أكثر من مرة، عكس النقد المتعارف عليه الصادر من البنوك المركزية. ويضيف لـ"الاقتصادية"، أن "الرمز الرقمي يتكون من ملف رقمي، والمشكلة أنه يمكن تكراره وأحيانا تزويره، تماما كالنقود المزيفة التي تحمل رقما صحيحا، لكنها مع ذلك تظل مزيفة لأنها لم تصدر من البنك المركزي". ويشير أندروا مار، إلى أن هذا الإنفاق المزدوج لا يفقد الثقة فقط بالعملات الافتراضية، لكنه يؤدي إلى مزيد من التضخم عبر طرح عملات غير حقيقية، وهذا الإنفاق المزدوج عندما ظهر لم ينل في أول الأمر من العملات المعروفة مثل "بيتكوين"، إنما تركز في العملات الأقل انتشارا، وفي مرحلة أخرى طال أحد امتدادات "بيتكوين" وهي عملة "بيتكوين" الذهبية ثم اتسع نطاقة فطال 26 عملة مشفرة رئيسة. تتركز مشكلة العملات المشفرة المزيفة والإنفاق المزدوج في البلدان الآسيوية، إذ تلعب القارة الآسيوية دورا مميزا في هذا العالم. ويعتقد نايجل جيمس المختص الأمني السابق في قسم مكافحة التزييف في الشرطة البريطانية أن الصين وكوريا الجنوبية أكثر البلدان التي تعاني تفشي تلك الظاهرة. ويضيف لـ"الاقتصادية"، أنه "يصعب الوصول إلى رقم دقيق لحجم العملات المشفرة المزيفة من إجمالي العملات المشفرة المتداولة، ولكون عديد من الخوادم يقع خارج الحدود الوطنية، فإنه يصعب التعامل مع تلك المشكلة، إذ تتطلب تعاونا واسع النطاق لم يتوافر له الغطاء والتشريعات القانونية الواجبة". ويشير جيمس إلى أن "أسباب ظاهرة العملات المشفرة المزيفة تعود في جزء منها إلى أن القوانين في كثير من البلدان ترفض الإقرار والاعتراف بالعملات المشفرة، حيث يعد التعامل بها غير قانوني، ما يدفع الراغبين في التعامل إلى العمل في الخفاء، واقتنائها عبر وسطاء غير شرعيين وغير موثوق بهم، ويضعف ذلك إمكانية اكتشاف تلك العملات، كما أن قطاعا كبيرا من المتعاملين في هذا المجال ليسوا مختصين، ولا يعرفون تفاصيل هذا العالم التكنولوجي المعقد، إنما تجذبهم فكرة الأرباح المرتفعة والسريعة، من دون أن تكون لهم دراية حقيقية بالتفاصيل، ما يسهل خداعهم". يعتقد جيمس أن الأعوام المقبلة ستشهد مزيدا من تفشي تلك الظاهرة، وأنها حتما ستمتد إلى البلدان المتقدمة، خاصة مع اتساع نطاق التعامل بالعملات الافتراضية.
مشاركة :