في محاضرة ألقاها بمقر الجمعية الفلسفية الأردنية عن المشروع الفكري للمفكر السوري الراحل طيب تيزيني في قراءة التراث، قال الباحث الأكاديمي الأردني وأستاذ الفلسفة الدكتور زهير توفيق إن المنهج الجدلي التراثي عند طيب تيزيني في قراءة إشكالية التراث يتكون من خطوتين متلازمتين، الأولى، ويسميها بخطوة النقد التقويمي أو السلبية النقدية، وتتعلق بعرض ونقد الاتجاهات الفكرية السائدة غير الماركسية، والتي قرأت التراث العربي الإسلامي من منطلقات مخالفة للمادية التاريخية. وبعدها ينتقل تيزيني إلى خطوة الثانية والأهم وهي ذات طابع إيجابي تركيبي يتمثل بضرورة إنشاء وتطوير البديل الثوري، أي النظرية الجدلية التراثية من خلال التوحيد المنهجي بين التاريخ (الماضي) والتراث (الماضي الممتد في الحاضر)، أو الاستمرارية واللاستمرارية، والهدف إسقاط جميع اتجاهات الفكر اللاتاريخي من خلال التجاوز الجدلي للسلبية النقدية، والمقاربات والمناهج التي تعاملت مع التراث من مواقع لا تاريخية ولا تراثية. خمسة توجهات يتوقف تيزيني طويلا، حسب المحاضر، عند الاتجاهات المثالية القديمة والحديثة التي تناولت التراث العربي الإسلامي، بعيدا عن المنهج المادي الجدلي، وأغلبها ما زال فاعلا في الساحة الثقافية والفكرية، فهي بشكل أو بآخر نفس الاتجاهات والتيارات الفكرية السائدة في الفكر العربي الحديث والمعاصر، وأول هذه الاتجاهات التي تعرضت للموضوع التراثي، وفشلت في مقاربته، بل وشوّهته إلى أبعد حد، هو الاتجاه السلفي، الذي يعتبر الماضي مصدرا ومعيارا للحقيقة. ويتعلق الاتجاه الثاني بالاتجاه الحداثي أو المعاصرة، وهو نقيض السلفية يركض وراء الجديد والحديث القادم من أوروبا، معيار التقدم والحقيقة، بغض النظر عن جوهره وحقيقته، وهو في توجهاته الراديكالية رؤية عدمية غير متماسكة للتراث والتاريخ يستخدمها أصحابها لتمجيد وإطلاق الجديد، ومن ثم لمعارضتها بالقديم معارضة مبدئية. البديل الثوري البنائي الذي يتصوره تيزيني هو المادية التاريخية، أو النظرية الجدلية التراثية، إلا أنه يعود ويذكّر بإنجاز تلك التيارات والاتجاهات، وضرورة استكمال ما أنجزته على تواضعه وعدم البدء من نقطة الصفر ولا تجد هذه المعاصرة العدمية الرضا والقبول من الجماهير، كما يقول تيزيني، بسبب رفضها العدمي للتراث العربي الإسلامي، واعتباره جزءا من الماضي الذي تجاوزه العصر، وهذا استفزاز لمشاعر الجماهير المؤمنة والتقليدية التي تتمسك بتراثها رمزا لدينها وهويتها وأصالتها. ويتمثل الاتجاه الثالث بالاتجاه الوسطي، الذي يسميه تيزيني بالنزعة التلفيقية، وهي النزعة التي توهمت أنها قادرة على تجاوز سلبيات الاتجاهين السابقين، وتجميع الإيجابيات في بوتقة واحدة، إلا أن هذه المحاولة سرعان ما انقلبت، أو تحولت إلى تلفيق فشل في حل المشكلة، وأبقى على التناقضات كما هي، وقد أُخضع هذا الاتجاه للكثير من النقض والتحليل في الفكر العربي المعاصر، واتجاهات النقد الثقافي والحضاري فيه. أما الاتجاه الرابع، فهو النزعة التحييدية، وتعني عند تيزيني النزعة التي ترفض ربط قراءة التراث بأي أهداف سياسية أو أيديولوجية، وتتخذ هذه النزعة أشكالا متعددة، مثل النزعة الأكاديمية، الوثائقية، واللاأدلجة. وهي في مجملها تنويعات للنزعة الحيادية التي فشلت من حيث المبدأ في تحقيق مقاربة علمية للتراث كما هو، لأن الحياد والموضوعية المطلقة لا يمكن تصورهما أو تحققهما في العلوم الإنسانية والاجتماعية. وأخيرا الاتجاه الخامس، وهو الاتجاه المستمد من معطيات الاستشراق والمركزية الأوروبية، وهو اتجاه له حضوره في الفكر العربي المعاصر، حيث يعاد إنتاج خطاب الاستشراق الغربي والمركزية كمرجعية وحيدة ونهائية في الفكر العربي، وجعل كل ما هو خارج سياق الغرب والفكر الغربي خارج العالمية التي تتوحد بالغرب، وعليه فالفلسفة العربية والتراث الفكري لا يمكن اعتمادهما إلا كتنويعات شكلية في سياق الفكر الغربي العالمي. الفكر والواقع إذا كانت هذه هي مجمل القراءات والاتجاهات المغايرة للماركسية كمناهج فكرية قادرة على مقاربة التراث، فالبديل الثوري البنائي الذي يتصوره تيزيني هو المادية التاريخية، أو النظرية الجدلية التراثية، إلا أنه يعود ويذكّر بإنجاز تلك التيارات والاتجاهات، وضرورة استكمال ما أنجزته على تواضعه وعدم البدء من نقطة الصفر. وهو اعتراف ضمني، في رأي المحاضر، بقدرة تلك المناهج على مقاربة التراث بطريقة مغايرة، والمهم أن ما يجمع تلك الاتجاهات كونها تيارات وصلت إلى طريق مسدود، لأنها قراءات لا تاريخية ولا تراثية، وعبرت بشكل أو بآخر عن وعي طبقات برجوازية وإقطاعية، ولم يتسن للطبقات الكادحة أن تقول قولها العلمي الفصل إلا في الماركسية. أما معطيات النظرية الجديدة أو البديل البنائي في دراسة التراث، كما يتصورها تيزيني، فتتلخص باعتبار التاريخ والتراث الفكري ظواهر اجتماعية عامة، ومظهرا من مظاهر حركات طبقية وقومية إنسانية، وضرورة تقصي لحظات الانقطاع والصعود في التاريخ والتراث، والعمل على خلق المزيد من الوضوح المعمق حول البنية الاجتماعية للمجتمع العربي القديم والحديث. وتتصف النظرية التراثية المقترحة عند طيب تيزيني بالدعوة إلى التوحيد الجدلي بين الفكر والواقع، أي ربط الفكر بجذوره الواقعية لتجاوز النزعات التجريدية والتأملية التي لا تقيم وزنا للشروط الموضوعية والاجتماعية للمعرفة والفكر البشري، وفي المقابل تنأى النظرية التراثية بنفسها عن المادية الميكانيكية التي تربط الفكر بالواقع كإفراز مباشر له بصورة آلية، فالتوحيد الجدلي الذي تقترحه النظرية هو التوحيد الجدلي بين الحادث التاريخي والمادة التاريخية بتوحيد علم التاريخ بعلم الاجتماع (علم الاجتماع التاريخي)، والمادية التاريخية في المرحلة الراهنة التي يسميها المرحلة القومية المعاصرة، وهي التسمية المعادلة للتشكيلة الاقتصادية الاجتماعية في النظرية الماركسية.
مشاركة :