قال خطيب جامع الخير بقلالي الشيخ صلاح الجودر في خطبة الجمعة أمس إن الأمة الإسلامية اليوم تستقبل عاماً هجرياً جديداً، وإطلالة مباركة بإذن الله، عام مضى بأفراحه وأتراحه، تصرمت أيامه، وقوضت خيامه، وجفت أقلامه، فما أسرع الليالي والأيام، ولكن الموفق من أخذ الدروس والعبر فيما مضى، واستفاد من الكوارث والمحن، وتزود للمسير وخير الزاد التقوى، والله نسأل أن يجعل عامنا الجديد عام نصر وعز للإسلام والمسلمين. يتجدد الحديث عن العام الهجري الجديد، ويحلو الكلام عن الصفحات المشرقة، والأحداث العظيمة، فما أجمل أن نقف عند عدد من القضايا المهمة، علها تكون سبباً في شحذ الهمم واستنهاض العزائم للتمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن دروس الهجرة النبوية وعبرها: حسن التوكل على الله، وهو اعتماد القلب على الله وحده، فإنه لا يعطي إلا الله، ولا يمنع إلا الله، ولا يضر ولا ينفع سواه، قال تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَج) [الطلاق: 2]، وقال صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا) [أحمد]، وقال داود بن سليمان رحمه الله: (يستدل على تقوى المؤمن بثلاث: حسن التوكل فيما لم ينل، وحسن الرضا فيما قد نال، وحسن الصبر فيما قد فات). وقد كان صلى الله عليه وسلم في رحلة الهجرة النبوية متوكلاً على ربه، واثقاً بنصره، يعلم أن الله كافيه وحسبه، ومع هذا كله لم يكن صلى الله عليه وسلم بالمتهاون المتواكل، بل إنه أخذ بالأسباب ووضع برنامجاً محكماً للهجرة، ثم قام بتنفيذها. من دروس الهجرة النبوية الصبر واليقين، فإن أصحاب الرسالات والأهداف الكبرى لا بد أن تواجههم الصعاب والمتاعب، قال تعالى: (الم *أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت: 1-3]، وعَنْ سَعْد بن أبي وقاص قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً؟، قال: (الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ) [الترمذي]، وبعد سنوات من الابتلاءات هيأ الله تعالى لنبيه وأصحابه طيبة الطيبة (المدينة المنورة)، لتبدأ مرحلة النصر والتمكين لأهل الحق واليقين، قال تعالى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [غافر: 51-52]. وفي الهجرة المباركة لما خاف الصديق على رسول الله من أذى قريش قال: يا رسول الله: لوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ يَنْظُرُ إِلَى قَدَمَيْهِ لأَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ)، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الواثق بالله: (يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا). ومن دروس الهجرة النبوية الشريفة دور المرأة، فقد كان للمرأة دور كبير في الهجرة النبوية، وقد تجلى ذلك في دور عائشة وأختها أسماء، حيث كانتا نعم الناصر والمعين، فلم يخذلا أباهما أبا بكر، ولم يفشيا سرّ الهجرة، ولم يتوانيا في تجهيز الراحلة، وتزويدهما بالطعام وهما في طريق الهجرة. ومن دروس الهجرة النبوية معرفة معادن الرجال، وقد أحاط برسول الله نخبة من الرجال الأوفياء الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، وقفوا معه حتى يُبلغ رسالة ربه، ولكن تميز من بينهم أبوبكر الصديق، الذي سبقهم في الإسلام، وسبقهم في تصديق النبي في كل شيء، وسبقهم بصحبة النبي في أخطر رحلة عرفتها البشرية، وهي الهجرة النبوية الشريفة. فحين أذن الله تعالى لرسوله بالهجرة اختار معه أبا بكر الصديق، فكانا في غار ثور معاً ثلاثة أيام والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا)، فكان النصر والتمكين ورفع راية التوحيد مع بلوغهما المدينة المنورة. لا تزال مواسم الخيرات تتوالى عليكم، فما ان انتهى موسم الحج حتى أعقبه شهر الله المحرم، وهو الشهر الذي اختصه الله ببعض الخصائص: فهو من الأشهر الحُرم التي حرم الله فيها القتال، قال تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) [التوبة: 36]، وهذه الأشهر هي ذو القعدة، وذو الحجة، وشهر محرم، والرابع شهر رجب، وقد حرم الله القتال فيها لتأمين الحجاج والمعتمرين. وشهر محرم قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ)، وهو الشهر الذي اختاره الصحابة في عهد الفاروق ليكون أول السنة الهجرية، وفي هذا الشهر يوم عاشوراء الذي أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن صيامه يكفّر السنة الماضية)، وقد صامه موسى عليه السلام شُكرا لله لما أغرق الله فرعون وقومه، وقال صلى الله عليه وسلم: (نَحْنُ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ) أو (أولى بِمُوسَى مِنْكُمْ) فصامه صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه. ألا فاتّقوا الله رحِمكم الله، واحفَظوا ألسنتَكم، (وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [الأنفال: 1].
مشاركة :