فيلم سعودي يتنافس على الأسد الذهبي في فينيسيا

  • 8/31/2019
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

تبدو المخرجة السعودية هيفاء المنصور في فيلمها المشارك في مسابقة الدورة الـ76 لـ مهرجان فينيسيا السينمائي، والمعنون بـ“المرشحة المثالية” مهتمة مجددا بقضية المرأة السعودية في المجتمع الذكوري الذي لا يزال ينظر إلى المرأة نظرة متدنية. لكن المنصور تعالج موضوعها مبرزة أيضا ما يشهده المجتمع السعودي من إصلاحات حقيقية سواء على صعيد مشاركة المرأة في العمل العام، أو على مستوى الفنون والسماح بإقامة الحفلات العامة وإنشاء دور العرض السينمائي والسماح للمرأة مؤخرا بقيادة السيارات وبالسفر من دون محرم، والكثير من الإصلاحات التي ستتلوها دون أي شك، إصلاحات أخرى باتت ضرورية ومطلوبة. هيفاء المنصور تستند إلى سيناريو بسيط، محكم، دقيق، متوازن، ينتقل في سلاسة عبر الفصول المختلفة للقصة التي يرويها، من دون تعقيدات أو استعراضات بالكاميرا أو خروج عن أجواء الفيلم الواقعية، مع بعض اللمحات والمشاهد التي يغلب عليها الطابع الكوميدي ولإبراز دور الموسيقى والغناء. إنها تريد بوضوح الوصول إلى أكبر جمهور ممكن، ربما في الداخل قبل الخارج، فالفيلم في الأساس وكما يتضح من سياقه ومن اختياره لأبطاله وأشكالهم المتنوعة في إطار التركيبة السعودية، واهتمامه أيضا بالإشارة إلى الكثير من المتناقضات في المجتمع “الذكوري” السعودي، يتوجه تحديدا إلى الجمهور السعودي، يريد أن يداعبه، وأن يدفعه إلى الابتسام، وربما إلى الضحك أيضا على نفسه، وعلى بعض عاداته العتيقة، كما يريده الفيلم أن يغضب وأن ينتفض ويبدأ في الثورة على نفسه وأن يرفض التشبث بقيم عفا عليها الدهر، خاصة في نظرته لدور المرأة، وهو محور اهتمام المنصور هنا كما كان في “وجدة”. وتتبع المنصور أسلوبا مرتبا بطريقة قصدية يكشف مشهدا وراء الآخر، عن الأشكال العتيقة في العلاقة بين الرجل والمرأة، كما تتوقّف أمام بعض المعوقات التي يتعرّض لها الفنانون الرجال في السعودية أيضا. وهي وإن كانت تحتفي بإبراز ما وقع من إصلاحات في الفترة الأخيرة، إلاّ أنها تطالب بالمزيد، وتشير بوضوح إلى أن ما تحقّق من إصلاحات ليس كافيا، وأنه قد آن الأوان أن تنتقل السعودية من الانغلاق إلى الحداثة. جو عدائي الشخصية الرئيسية في الفيلم هي “مريم” وهي طبيبة شابة تعمل في قسم الحالات الطارئة في مستشفى بإحدى المدن السعودية الصغيرة. ورغم حماسها الشديد للعمل وكفاءتها التي لا شك فيها، إلاّ أنها محاطة بجو عدائي يرفض أو يتحفّظ على دورها كطبيبة، سواء من جانب المرضى الرجال أو من جانب مدير المستشفى نفسه وبعض زملائها الأطباء. يدفعها طموحها للبحث عن وسيلة للترقي والحصول على عمل آخر، فتشرع في إجراءات السفر إلى دبي لحضور مؤتمر طبي هناك، لكنها تفاجأ وهي في المطار وبعد أن اقترضت ثمن التذكرة من شقيقتها، بمنعها من السفر بدعوى أن تصريح سفرها من جانب المحرم (وهو في هذه الحالة والدها نفسه)، انقضى أجله ويحتاج إلى تجديد. لكن الوالد غير متوفر. والوقت يمر وشركة الطيران لا تريد تمديد التذكرة سوى لساعات محدودة. والد مريم “عبدالعزيز”، هو مغني شعبي يعيش هائما مع ذكرياته وآلامه الشخصية منذ وفاة زوجته التي كانت مغنية في الأفراح وحفلات الزواج، وقد ارتبط بها ارتباطا شديدا وأحبها وما زال يحتفظ بشريط أغانيها الأول. وبسبب انغماسه في همومه ورغبته في التحقّق كمغنٍ ضمن فرقته الموسيقية التي تحاول الوصول إلى أكبر جمهور ممكن، قد انصرف عن رعاية بناته الثلاث مريم وشقيقتها: “سارة” المراهقة، و“سلمى” مصوّرة الأفراح. وبينما تسدل مريم النقاب على وجهها، تكتفي شقيقتاها بارتداء غطاء الرأس. وبينما تبدو مريم الأكثر جموحا وتمردا تبدو شقيقتها الأصغر سارة، التي يفترض أن تمثل الجيل الجديد.. جيل الإنترنت، هي الأكثر تشدّدا وهي التي ستعارض بشدة رغبة مريم الترشح لعضوية المجلس البلدي (خشية من رد فعل الجيران وما يقال من “كلام الناس”)، فما يحدث أن مريم بعد أن تفشل في إقناع قريب لها هو “راشد” الذي يشغل منصبا كبيرا في البلدية، بالتدخل ومساعدتها على السفر، تتقدّم بطلب ترشيح رسمي للانتخابات البلدية وهو ترشيح يأتي بالصدفة في مشهد كاريكاتوري بعد أن يرفض مدير مكتب راشد السماح لمريم بمقابلته بدعوى أن اليوم مخصّص فقط لمقابلة المرشحين! يصبح الفيلم منذ تلك اللحظة مكرسا لتوجيه الاهتمام إلى “المعركة” الغير مسبوقة التي تخوضها مريم أمام مرشح من الرجال كان دائما يفوز بالمقعد، كيف يمكن أن تنظم الدعاية بمساعدة شقيقتيها؟ وكيف تنظم حفلا وتدعو عددا من النساء لإقناعهنّ بانتخابها، خاصة وأن هدفها تعبيد الطريق إلى مستشفى الطوارئ، وهو طريق طيني ممتلئ بالمياه ممّا يعيق حركة سيارات الإسعاف؟ ثم كيف تواجه الرجال مباشرة في الخيمة التي اجتمعوا فيها ضاربة عرض الحائط بالتقاليد؟ وبعد أن تكون قد نزعت النقاب، ولكنها رغم ذلك تُواجه بالإعراض والرفض من جانب كلٍ من النساء والرجال. دور الفن تنتهج هيفاء المنصور أسلوبا يعتمد على المونتاج المتوازي، أي الانتقال المستمر بين ما تقوم به مريم مع شقيقتيها، بعد أن اعتذر والدها عن مساعدتها أو الوقوف بجانبها نظرا لقيامه مع فرقته بجولة غنائية في عموم البلاد، وبين رحلة الأب وجولات فرقته الغنائية وما تتعرّض له من متاعب وما تحلم به، حيث تأمل أن يلتحق أفرادها بالفرقة الوطنية للموسيقى التي أعلنت الحكومة بالفعل البدء في تأسيسها. إلاّ أن شخصية الأب تبدو في الحقيقة أكبر من الواقع، فهو يتمتّع بروح ليبرالية عظيمة تجعله يسمح لابنته بأن تفعل ما تشاء وتعتمد على نفسها تماما وتخرج إلى العمل بكل حرية، وإن كان في قرارة نفسه يشعر بالقلق عليها. لكن الفيلم يبرّر ذلك في ضوء أن الأب رجل متفتح ومطرب يؤمن بدور الفن، ويدعو إلى ضرورة أن ترعى الدولة الفنانين، كما يصوّر الفيلم كيف تتعرّض الفرقة الموسيقية لتهديدات من الجماعات الإرهابية التي تعادي الغناء في الأماكن العامة. والحقيقة أن هيفاء المنصور تجمع في فيلمها بشكل يكاد يكون حرفيا، جميع المتناقضات: السماح للمرأة أخيرا بقيادة السيارات (مريم تقود سيارتها بنفسها)، ولكن في الوقت نفسه استمرار الفصل بين النساء والرجال، ومنع الاختلاط في الحفلات بما في ذلك حفلات الزواج.. النظرة التقليدية المتشدّدة لدور المرأة كطبيبة (المريض المسن الذي يرفض أن تفحصه مريم)، ثم كيف يعترف هذا المريض نفسه بعد أن تنقذ هي حياته بخطئه ويصفها بأنها الطبيبة المثالية. هناك لقطات خارجية من السيارة وكذلك من الحافلة التي تقل الفرقة الموسيقية، للمناظر الطبيعية بين المدن مع امتداد الجبال والصحراء، وهناك اهتمام كبير بالموسيقى والغناء، الذي يمتزج فيه العاطفي بالديني، وتركيز مقصود على فكرة أن الدين ما زال هو المؤثر الثقافي الذي يهيمن على المجتمع حتى في غناء الأفراح. هناك مثلا ذلك المشهد الذي نرى فيه جميع الموظفين وقد توقّفوا عن العمل وانصرفوا يؤدّون الصلاة، وهناك مشهد آخر لصلاة النساء في المسجد، ومناظر للجوامع وأصوات الآذان التي ترتفع في كل مكان.. بوجه عام يبدو الفيلم تبسيطيا: ينقد ويمتدح، يرحب بالتطوّرات، وينتقد التباطؤ في الإصلاح، يشير إلى التأثير السلبي لنظرة الرجل للمرأة، لكنه يدين أيضا نظرة المرأة لدور المرأة، بل تجعل المنصور بطلتها مريم تستنكر في العديد من المرات خلال حواراتها مع شقيقتيها أو والدها عمل والدتها الراحلة مغنية في الأفراح، حينما تردّد مرارا أنها “لن تكون مثلها”. ومن التناقضات في الفيلم أن تكون مريم الأكثر تحرّرا من شقيقتيها في إصرارها على وضع النقاب (قبل أن تخلعه)، والتناقض الآخر المفاجئ الذي يحدث عندما تمسك الميكروفون وتغني في أحد الأفراح، إشارة إلى أنها قد اقتنعت بما كانت تؤديه أمها الراحلة بعد أن استمعت للشريط الذي أهداه لها والدها. تفشل مريم كما كان متوقعا في الانتخابات البلدية رغم الدعاية والجهود الكبيرة التي بذلتها، والاستخدام الجيد لوسائل التواصل الاجتماعي والميديا الجديدة في الدعاية والوصول لأكبر عدد من الناس (هناك تركيز كبير في الفيلم على تأثير هذه الوسائط على الشباب في السعودية)، لكن الفيلم يشير في نهايته إلى أن إقدام “المرشحة المثالية” على الترشّح، ما هو سوى خطوة أولى صحيحة على الطريق، لكن طريق التغيير لا يزال طويلا. صوّرت هيفاء المنصور فيلمها بأسره في السعودية. واستعانت بطاقم تمثيل كامل من السعودية، وأدارت الممثلين الذين يقفون أمام الكاميرا للمرة الأولى بمهارة وكفاءة لا شك فيها، في مقدمة هؤلاء جميعهم، ميلا الزهراني (في دور مريم) وهي تتمتع بوجه جميل وحضور خاص مميز وصوت جميل، وقد أدت الدور بمهارة وتميّزت بوجه خاص في عدد من المشاهد منها مشهد الحوار التلفزيوني، ومشهد مواجهتها مع الرجال في الخيمة، كما تميّزت معها أيضا كل من نورا العوض (سارة) وداية (سلمى) وخالد عبدالرحيم (في دور الأب عبدالعزيز) بصوته الشجي وتلقائيته وهدوء شخصيته. ولا شك أن الموسيقى التي برز فيها دور العود بوجه خاص، أضفت جمالا إضافيا على الفيلم. يجب أن نضيف أن المشاركة الألمانية في الإنتاج والجوانب التقنية كلها، ضمنت مستوى جيدا من حيث الصورة والصوت، فقد اشترك مع المنصور في كتابة السيناريو الألماني براد نيمان، وأدار التصوير باتريك أورث، وصمّم المناظر أوليفر ميدنجر، وقام بعمل المونتاج أندرياس رودراشوك، ووضع الموسيقى فولكر بيرتلمان، وصممت الملابس هاكيه فادميرشت. الفيلم من بين أحد الأفلام الـ21 التي تتسابق على جائزة الأسد الذهبي (وجوائز أساسية أخرى) في مهرجان فينيسيا السينمائي. وقد استقبله النقاد والصحافيون في عرضه الخاص استقبالا حماسيا بسبب جرأته وبساطته ووضوح رؤيته.

مشاركة :