يتحسر سليم (35 عاما) على نظافة البلاد قبل أن تسيطر فوضى الأحزاب عليها وعلى عقليات العباد. يتذكر أنه عام 2009 كان يعود متأخرا إلى منزله في المترو بسبب طبيعة عمله، كل ليلة كانت عاملات النظافة ينظفن المحطات بخراطيم المياه. كان عمال النظافة لا يفارقون المحطات نهارا. ويضيف “انظر اليوم إلى ما آلت إليه أحوالنا إنه شيء محزن جدا”. في تونس اليوم، أينما وليت وجهك تعترضك جبال النفايات بروائحها الكريهة، لا فرق بين مناطق راقية وأخرى شعبية. يقول وليد من صفاقس “أنا مواطن بسيط عندما أخرج من بيتي هذه الأيّام.. بل هذه الأسابيع.. بل كل هذه السنوات، تواجهني أكداس القمامة والأكياس البلاستيكية السوداء والبيضاء والزرقاء معلّقة على الحيطان، وقد تدلّت تيجانا لأبواب البيوت. وعندما أصل إلى الطريق العام وقد اصطفت على حافتيه الأشجار الخضراء التي اختلط اخضرارها بلون القمامة البشع، تستقبلني أكياس القمامة بألوان مختلفة تحيط بحاويات كبيرة متخمة بالفضلات؛ حطب، قوارير بلاستيكية وأشياء أخرى، وقد تجمّعت تحت هذه الأشجار تستظل بظلالها وتقطع عنّا نقاء الهواء بروائحها النافرة. وعندما تركب سيارتك وأنت متّجه إلى وسط المدينة التي يسمّونها زورا عاصمة الجنوب، تكون في استقبالك جبال من القمامة على اليمين وعلى الشمال وفي كل مكان”. ويضيف “الفضلات لا تنتشر في المكان فحسب، بل تمتدّ في الزمان أيّاما وأسابيع، وشاحنة البلديّة لا ترى لها أثرا ولا تسمع لمحركها أزيزا”. وشهدت العديد من المناطق الشاطئية حالة من التلوّث الأمر الذي أفسد عطلة المصطافين وأعطى صورة سلبية عن الوجهة السياحية التونسية. يقول عادل لبزة، سائح جزائري، إن الوجهة السياحية التونسية تغيرت خلال هذه السنوات الأخيرة في ما يتعلق بمسألة النظافة وسلامة المحيط. إذ لم يكن يلاحظ من قبل تراكم الأوساخ في الشواطئ وفي الفضاءات العامة. تقول أستاذة فرنسية فضلت قضاء عطلتها هذا العام مرفوقة بصديقتين لها فرنسيتي الجنسية في الحمامات إنها “شعرت بالخجل إزاء حالة التلوّث البدائي الذي ظهرت عليه المدينة والشاطئ، وهو ما لا يليق بهما”. ورغم ذلك تشهد البلاد مبادرات فردية وجماعية للتقليص من تلوث المحيط. وكان المهندس الشاب محمد أسامة حويج قد دخل في بادرة مواطنية منذ مطلع يوليو الماضي لقطع مسافة تقدر بـ300 كلم على الشواطئ مشيا على الأقدام من أجل تنظيفها. وقد كانت المهديّة نقطة انطلاق للشاب حويج في اتجاه سواحل الشمال أي تنظيف حوالي 30 شاطئا في طريقه. لا يمكن لترسانة التشريعات والعقوبات أن تحقق الأهداف المنشودة دون أن يرافقها وعي لدى المواطنين تؤكد وزارة الشؤون المحلية والبيئة أنها تستهدف بنهاية العام الجاري التقليص من العجز في جمع الفضلات إلى مستوى 5 أيام مقابل 25 يوما في 2018 و67 يوما سنة 2012. ويقدر حاليا حجم الفضلات غير المرفوعة بنحو 25 ألف طن تستوجب عمل 25 يوما إضافيا. ولتحقيق هذا الهدف تعمل الوزارة ضمن خطتها لهذه السنة على رفع القدرات اللوجستية للبلديات. تقدر كمية النفايات المنزلية والمشابهة المنتجة سنويا بنحو2.5 مليون طن، إذ يبلغ معدلها للفرد الواحد نحو 0.6 كيلوغرام يوميا. وتقدر نفايات اللف والتعليب بـ53 ألف طن. وتتميّز النفايات المنزلية بنسبة هامة من المواد العضوية تبلغ نحو68 بالمئة، في حين تبلغ نسبة البلاستيك 11 بالمئة، والورق 10 بالمئة، وتتوزّع البقية بين المعادن والجلد والمطاط والقماش. كما قدرت كمية النفايات المتأتية من الأنشطة الصناعية بنحو250 ألف طن سنويا، موزعة كالآتي: 53 بالمئة من الصناعات الميكانيكية، و14 بالمئة من الصناعات الكيميائية، و10 بالمئة من الصناعات الإلكترونية والإلكتروميكانيكيـة، في حين تأتي الـ23 بالمئة المتبقية من الصناعات الغذائية. وتقدّر الكمّيات السنويّة من النفايات الخطرة بالبلاد التونسية بحوالي 8 آلاف طن بالنسبة لنفايات الأنشطة الصحيّة وستّة ملايين و150 ألف طن بالنسبة للنفايات الخطرة الصناعيّة، منها 6 ملايين طن من الفسفوجيبس، وفق ما ورد في تقرير المهمة الرقابية لدائرة المحاسبات حول النفايات الخطرة. وأضاف التقرير أن منظومة التخلص من النفايات الخطرة التي أرسيت في بداية التسعينات ضعيفة وغير فعالة. وخلص التقرير أيضا إلى أن الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات والمشرفة أساسا على متابعة التصرف في النفايات المشعة والصناعية، والتي أنشئت للغرض، محدودة الفاعلية ولا تتولى الرقابة الكافية على المؤسسات الملوثة. يذكر أن برنامج الأمم المتحدة للبيئة يقسّم النفايات إلى عدة أنواع من حيث خطورتها وطبيعتها وهي “النفايات الحميدة أي مجموع المواد التي لا يشكل وجودها مشكلات بيئية خطيرة، ويسهل التخلص منها بطريقة آمنة بيئيا، والنفايات الخطرة وهي النفايات التي تشتمل مكوناتها على مركبات معدنية أو إشعاعية تؤدي إلى مشاكل بيئية خطيرة. وتتولد هذه النفايات الخطرة من المواد والمخلفات الصناعية والكيمياوية، والمخلفات الزراعية والنفايات الصلبة أي النفايات المكونة من مواد معدنية أو بلورية وتنتج عن النفايات المنزلية والصناعية والزراعية وهي بحاجة إلى مئات السنين للتحلل، ويشكل تواجدها خطرا بيئيا، والنفايات السائلة أي المواد السائلة وتتكون من خلال استخدام المياه في العمليات الصناعية والزراعية المختلفة. ومنها الزيوت، ومياه الصرف الصحي وعادة ما تُلقى في المصبّات المائية في الأنهار أو الشواطئ والنفايات الغازية وهي عبارة عن الغازات أو الأبخرة الناتجة عن حلقات التصنيع، والتي تتصاعد في الهواء من خلال المداخن الخاصة بالمصانع. ومن تلك الغازات: أول أكسيد الكربون، ثاني أكسيد الكبريت، الأكسيدات النيتروجينية، والجسيمات الصلبة العالقة في الهواء كالأتربة وبعض ذرات المعادن المختلفة”. ويقول الصحافي التونسي الحبيب الميساوي “من الطبيعي أن نتساءل إن كانت تونس تحتكم على منظومة تحترم هذا التقسيم ومن ثمّ التصرف في النفايات بشكل يسمح بحماية البيئة والمحافظة على سلامة المحيط”. ويتابع الميساوي “إن المنظومة برمتها تعاني العديد من الإخلالات وصلت إلى حد وصفها بالمنظومة الفاسدة… إذ يوجد في تونس أحد عشر مصبا مراقبا تتصرف فيها ثلاث شركات، اثنتان من هذه الشركات تديران لوحدهما عشرة مصبات في حين لا تتوفر أرقام عن عدد المصبات العشوائية الموزعة على كامل مناطق البلاد، ولم تنجح الأجهزة المختصة التابعة للدولة في إغلاقها أو إعادة تأهيلها على أسس علمية… واستفادت الشركتان المذكورتان من العديد من الثغرات الإدارية والقانونية لتهيمنا على سوق التصرف في النفايات وتسأثرا لنفسيهما بالاعتمادات التي تخصصها الدولة سنويا للتخلص من الفضلات المنزلية والصناعية والطبية. ويتساءل صابر (38 سنة) “لماذا لا تقع خوصصة القطاع للنهوض بالخدمات البلدية فإذا فشل أعوان البلدية العموميون في القيام بواجبهم فليتركوا القطاع للخواص وستحل المشكلة؟”، مؤكدا أن أكياس القمامة تكاد تقتحم المنازل في زحفها المتواصل من الخارج نظرا لانعدام الحاويات وعدم تدخل أعوان البلدية في نقل ما تكدّس من فضلات. ويعمد العديد من المواطنين إلى حرق هذه أكوام القمامة سعيا منهم إلى التخلص من الروائح الكريهة التي تنبعث منها والحشرات التي تعشش فيها، غير عابئين بما تسببه هذه الحرائق من انعكاسات بيئية خطيرة على المحيط وبالخصوص على صحة المواطن لما تصـدره من انبعاثات سامة. ولا يقتصر الأمر على النفايات المنزلية بل يشمل كذلك بقايا حضائر البناء التي يعمد أصحابها إلى إلقائها على قارعة الطريق رغم خطورتها لاحتوائها على مواد كيميائية مضرة بالطبيعة وبالإنسان. يذكر أنه بعد ثورة 2011 تمت تسوية وضعيات عملة البلديات الذين ظلوا للعديد من العقود مهضومي الحقوق انطلاقا من الأجر الشهري المتدني والأوضاع المهنية المزرية. وقد جاء في الفصل 45 من الدستور التونسي “تضمن الدولة الحق في بيئة سليمة ومتوازنة والمساهمة في سلامة المناخ. وعلى الدولة توفير الوسائل الكفيلة بالقضاء على التلوث البيئي”. كما تحتكم تونس إلى ترسانة من التشريعات للحد من التلوث لكن مراقبين يقولون إنه لا يمكن لترسانة التشريعات والعقوبات أن تحقق الأهداف المنشودة دون أن يرافقها وعي لدى المواطنين بقيمة النظافة. وكان مجلس نواب الشعب قد صادق في مارس 2016 على قانون متعلق بمخالفة تراتيب حفظ الصحة والنظافة العامة تصل العقوبات المالية فيه إلى 1000 دينار لكل من يخالف تراتيب حفظ الصحة والنظافة في الطريق العام ويقوم بالإلقاء العشوائي للفضلات إلا أن ذلك لم يغير شيئا ولا يزال الوضع على ما هو عليه. كما انطلق عمل جهاز الشرطة البيئية في يونيو 2017 وذلك بهدف تطويق ووضع حد للوضع البيئي الكارثي. واحتلت تونس مراكز متقدمة في ارتفاع نسب التلوث؛ فقد احتلت المرتبة 27 عالميا بنسبة تلوث تقدر بـ75.12 بالمئة كما صنفت الثالثة أفريقيا. ويرجع مراقبون ارتفاع نسبة التلوث إلى ضعف الإحساس بالمواطنة من قبل التونسيين.
مشاركة :