تستعيد نوال السعداوي بعد خمسة وأربعين عاماً تَشكّل الوعي والهويّة النسائية في «مذكّرات طفلة» الصادرة عن دار الساقي، بيروت. تقول الكاتبة والنسوية المصرية إن الرواية الصغيرة كانت فرضاً إنشائياً في السنة الثانوية الأولى عنوانه «مذكّرات طفلة اسمها سعاد» لم يعجب المدرّس البدين القصير القامة الذي منحها صفراً. حين عثرت عليها بين أوراقها القديمة أدهشتها العلامة ونوعية الكتابة في تلك السنّ، وفكّرت أنها، لولا الصفر، ما كانت توقفت ربما عن الكتابة، أو اختارت دراسة الطب بدلاً من الأدب. لا تشير السعداوي إلى مراجعة للمخطوطة، أو إضافة إليها، وعلينا أن نقبل النص كأنه كُتب أساساً كما نقرأه. في العام 1944 تتحدّى نوال المراهقة العالم منذ الكلمة الأولى. تستهلّ الكتابة بـ «اللذّة» التي تشعر بها سعاد وهي تجري على الأرض الدافئة المشبعة بالشمس، فيما الهواء المنعش يدخل صدرها، وحركة جسمها لا يعوقها شيء. «لذّة غريبة لها طعم اللبن الدافئ الذي ينساب في فمها حين تلامسها أمها، ولها دفء الدم الذي ينساب في جسدها حين تلامس يدها، ولها ملمس الكرة الناعم حين تمسك بيديها» (الصفحة 7). تلاعبها والدتها بالكرة فـ «تصرخ من اللذّة، لذّة تحريك ذراعيها وساقيها وظهرها وعنقها ورأسها، تلك الحركة التي تهزّ جسدها وعقلها والكون من حولها بلذّة عجيبة تجعلها تضحك بصوت عالٍ وكأنها تصرخ» (الصفحة 7). تبقى سعاد رومنطيقية تحسّ أنها جزء من حركة الكون وهي في العاشرة أو الحادية عشرة، وحين تساعد في حفر الأرض لريّها يتحرك كيانها كله «كأنه خليّة واحدة مترابطة الأجزاء في انسجام كامل مع ذراعيها وساقيها ومع أجنحة الحمام وهو يطير وسنابل القمح وهي تهتزّ وترقص» (الصفحة 54). وسط الانتقال من البراءة والجهل إلى القولبة والمعرفة بالتخويف والفرض المتكرّرين، ببثّ الإذعان والشلل من دون تساؤل، تنشد سعاد انطلاق الجسد منذ طفولتها، وتعوّض بالحلم أحياناً أنها تطير. على شرفة بيتها، تفتنها حركة الشارع وأصواته، وتهمّ بالخروج لولا تدخّل الأم الخائفة من أن تقع وتموت أو تُخطَف. تبقى متوثّبة عقلاً وجسداً، لا يؤدّي التخويف إلى خوفها، وتشعر باللذّة لدى ركوب القطار، وتحرّكها بتحرّكه، واتحادها مع الطبيعة لدى اللعب بالتراب وابتلاعه مع أولاد عمتها خديجة، الفلاحين الذين تفوقهم طبقة اجتماعية باعترافهم. تتميّز عن شقيقتها بفضول ذكوري يدفعها إلى تفكيك الألعاب والدمى وتفحص الراديو واكتشاف سبب تعطّله. في السابعة تحسّ أن اللذّة وحدها ممنوعة أو محرّمة، وتبدأ علاقتها بالدين حين تصلّي وتصوم، ويعجز والدها، مصدر المعرفة الأول، عن ملء الثغرات في طرحه الديني. سعاد الشرهة لا يكفيها طعامها في المدرسة، فتسرق حلوى محمد، ويسعدها الصيام الذي ينتهي ليلاً بأصناف كثيرة. يوضح الأب أن هدف الصيام الشعور بالجوع لمعرفة ألم الفقراء، فتردّ أنها تأكل وتشبع أكثر من أي وقت آخر. تعينه الأم بالقول وفمها مليء بالطعام إن المعاناة من الجوع والعطش تدفع الميسورين إلى الشفقة على الفقراء والإحسان اليهم، فتسأل الطفلة لماذا لم يُعطَوا كما أُعطيت أسرتها. يحاول الأب إسكاتها بالقول إن المعوزين وجدوا لامتحان الأغنياء وعطائهم، وإن ثمة ما يجب حفظه من دون فهم بالضرورة إلى أن تنضج ويكبر عقلها. تعرّفها التربية الدينية إلى الجسد والروح والشيطان، وترعبها فكرة معرفة الخالق كل شيء والعقاب على الذنوب التي اعتقدت أنها الوحيدة العالمة بها. سرقة كعكة محمد واللّب (البذور) من البائع و «ممارسة تلك اللعبة تحت السرير» (الصفحة 52) مع شقيقتها وشقيقها والشرب خلال الصيام. تطرأ مفاهيم جديدة على معرفتها وحساباتها تؤدّي إلى التحرّر من الموروث، الاستقلال في القرارات والانفصال المعرفي عن الوالد. تستحق العقاب سواء صلّت أم لا. تعطي نصف الحمامة المحشوة للخادمة فتحية، فيحتجّ الأب ويقول إن للخدم طعامهم الذي يمنحهم الخالق إياه ولأصحاب البيت طعامهم. يوضح أن لذّة الأكل غير محرّمة، فتستعيد شراهتها. تخشى يوم القيامة وسقوط الشمس والقمر فعلاً على الأرض، وتتخيّل كيف سيتمكّن البشر من السير على الصراط المستقيم الرفيع لكي يصلوا إلى الجـــنة ولا يقعوا في النار. تعيد النظر في صلاتها الباكية لتنـــجح، وتتبيّن المكر والرشوة فيها، وترجّح الحتمية أفضليّة الكسل حين تتساءل عن جدوى الدراسة ما دام كل شيء مكتوباً. كان أشدّ ما تكرهه الجلوس ساكنة بلا حراك، والحصار بين لوحي خشب في الصف. تتظاهر بأنها تريد الذهاب إلى الحمّام لكي تخرج، وتتمنى خلال الحرب العالمية الثانية سقوط قنبلة على المدرسة لكي تهدمها وتلغي الامتحانات فلا ترسب ثانية. تربكها السياسة مذ أخافها متظاهرون غاضبون ضد الإنكليز الذين تساعدهم مصر بعد ذلك في مقاومتهم الألمان. «العالم يبدو حولها رهيباً غامضاً مليئاً بالأعداء، إنكليز وألمان وعفاريت ولصوص وجنيّات تخرج من قلب البحر» (الصفحة 74). يعرّفها الأب والمدرسة إلى الاختلاف الديني المرفوض والخاطئ، فتنضم إلى الآخرين في مقاطعة زميل يُعاقب على وراثة دين آخر بالضرب. وتصرّ الأم، ابنة «علي بيه»، على تفوقها الطبقي على الأب فتمنع أولادها من تناول الطعام من صحن واحد مع أولاد عمّتهم. وتنادي العمّات ووالدتهم الطفلة «ست سعاد» فتحسّ أنها ستّ فعلاً بفستانها الحرير وحذائها اللامع بين أولادهن الحفاة، لكنها تفضّل صحبتهم على زيارة بيت جدّها لأمها لبرود أهله، وتعييرها بأنها فلاحة لحبها العمل في الأرض. والدة الأب تعبت بعد ترمّلها لكي توفّر العلم لابنها الوحيد بين ستّ فتيات، وتفخر الآن به حين يأتي في سيارة وليس على حمار كالفلاحين، مع زوجته الست الهانم ابنة البيه الكبير. هي المرأة الوحيدة التي تعترف الرواية بجهدها ومكافأته، إذ لا تحضر سائر النساء إلا لتقديم طروح تميّز طبقياً وجنسياً. إحدى العمّات تخصّ الشقيق بركوب الحمار وتطلب من سعاد المشي لأن الفتى أحسن من عشر بنات مع أنهن بسبع أرواح وهو بواحدة، أمر حكمت سعاد عليه بالتناقض لإيحائه بتفوّق الفتيات. يحضر الأب بقوة طوال فترة الصياغة ثم يحسم انفصاله بقسوة ويطلب ثمن أبوته حين تبالغ في الكسل. ليست شاطرة إلا في تناول الطعام، وهو ليس مستعداً لإطعام البغال، ولا يزال عليه الإنفاق على شقيقتها وشقيقها. بدا «كأنه ليس أباها، وسرت في جسدها قشعريرة، فخيّل إليها أنها عاشت كل تلك السنوات مع أب هو ليس أباها» (الصفحة 92). تتعقدّ العاطفة في مشهد جميل، وتشعر برغبة في البكاء أو التقيؤ، ثم بالضآلة والمهانة حين تنجح. تنهي السعداوي رحلة الطفولة ببيان نسوي، مقتضب، حزين يشير تكرار الاسم فيه إلى الوضع النسائي المكرور.
مشاركة :