مصر تتحسب من الغرق في دوامة الديون المتفاقمة

  • 9/4/2019
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

لا تزال قضية الدين العام تهدد الكثير من الدول الراغبة في تطوير اقتصادها. لذلك باتت من القضايا التي ينظر إليها الخبراء على أنها يمكن أن تقوّض التوسّع في عمليات التنمية. وفي دولة مثل مصر تحتاج هذه المعضلة إلى وسائل جيّدة للتعامل معها، كي تتمكن من الاستمرار في فورة العمران والبناء في المدن الجديدة التي يتم تشييدها في مناطق كثيرة. لكن يبدو أن الدين أصبح همّا بالليل ومذلة بالنهار، وفق الأقوال المأثورة، فتداعياته السلبية تنعكس مباشرة على حال المواطنين، وبدلا من توجيه المخصّصات المالية لرفاهيته أو تحسين الخدمات المتردية في قطاعات تمس حياته مباشرة، مثل التعليم والصحة والخدمات، تُوجّه هذه الأموال لسداد أعباء وفوائد الدين، لكن أصول الديون لا تزال تتراكم. ودقت وكالة موديز للتصنيف الائتماني ناقوس الخطر وهو ما أدّى إلى زيادة المخاوف. ولم يمنع لسان حال الوكالة الذي هلل وأشاد بخطوات إصلاح الاقتصاد المصري من وقوف البعض عند ملاحظة الديون، وعدم غضّ الطرف عن هذه الهنات، لأن موديز من أوائل وكالات التصنيف الدولية التي منحت الاقتصاد المصري درجة مستقر. تفاقمت أزمة الديون بعد أن شحّت الكثير من موارد البلاد في أعقاب ثورة 25 يناير عام 2011 وما تلاها من أحداث أهلت لثورة إصلاحية سياسية ثانية في 30 يونيو 2013 لتصويب مسار الثورة الأولى التي قفز على ظهرها الإخوان، نتيجة هشاشة الحياة السياسية في مصر والحضور الواهن للأحزاب المدنية في المشهد العام. أمعنت القاهرة في الاقتراض من الدول العربية لسدّ احتياجاتها الأساسية، وحصلت على قروض ومنح بأكثر من 25 مليار دولار من دول الخليج خلال سنوات ما بعد الثورتين، لكنها وجّهت جميعها إلى الإنفاق الاستهلاكي، وتحوّلت إلى عبء على البلاد. ويجمع الخبراء على أن الاقتراض في حدّ ذاته ليس المشكل، فالولايات المتحدة وهي أكبر اقتصاد في العالم مكبّلة بالديون، لكن السؤال يكون في هل يوجّه هذا الاقتراض إلى استثمار مباشر يدرّ عوائد تمكّن من تشغيل مفاصل الاقتصاد المتيبسة، أم لشراء الطعام والإنفاق في بنود قدرتها على ضخ عوائد ضعيفة أو بعيدة المدى. تؤكد مقارنة حجم الديون بعمليات التنمية في الحالة المصرية أن الاقتراض لم يوجّه إلى المسارات الصحيحة، فهو اقتراض يتم غالبا لسداد أعباء الديون، واستمرار سياسة ترحيل الأعباء على الأجيال القادمة. دفعت فورة الاقتراض في القاهرة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي إلى فرض تعليمات صارمة لوزيرة التعاون الدولي سحر نصر بعدم التوسع في الاقتراض، إلا أن شحّ موارد البلاد دفع بالحكومة إلى رفع سقف الاقتراض بلا حدود. واتجهت الحكومة إلى أسهل الحلول، وأدمنت الاقتراض من الخارج، بعد أن وافق صندوق النقد الدولي على منح القاهرة قرضا لمساندة برنامجها الإصلاحي، وأصبحت الموافقة معبرا وشهادة ثقة تمكن القاهرة من زيادة الاقتراض من أسواق عالمية مختلفة. الاتجاه شرقا تحوّلت مصر إلى دولة مدينة لكثير من الدول الغربية والمؤسسات الإقليمية والدولية. واتجهت مؤخرا إلى أسواق آسيا وأعلنت عن إصدار سندات لتأمين وتنويع مصادر اقتراضها، كي تضمن تدفقات نقدية تعزّز من سداد أقساط الديون. استغلّت وزارة الإسكان التقارب السياسي بين القاهرة وبكين. وأعلنت عن اقتراضها نحو ثلاثة مليارات دولار لبناء سبعة أبراج في العاصمة الإدارية بشمال شرق البلاد، منها البرج الأيقوني الذي يعدّ أعلى برج في أفريقيا. وأعلن وزير المالية أيضا عن خطة تستهدف طرح سندات مصرية في الأسواق الآسيوية، وقام بحملة ترويجية لها انطلقت من كوريا الجنوبية. بلغ نصيب كل مواطن مصري مقيم في الداخل نحو 2766 دولارا من إجمالي الديون الداخلية والخارجية حتى نهاية ديسمبر من العام الماضي. وهذه الحصة مرشحة للزيادة بعد أن قالت موديز إن الديون الخارجية مرشحة لتجاوز حاجز 115 مليار دولار، دون احتساب الديون الداخلية. تسبّب هذا الوضع الصعب في زيادة معدلات الفقر في البلاد الذي طال ثلث الشعب المصري. فالحزم المالية التي توجّه لسداد الديون وفوائدها تفوق الدعم المالي الموجّه إلى الفقراء، وشريحة كبيرة من محدودي الدخل، التي هبطت لخط الفقر بسبب موجات الغلاء المتعاقبة وطالت الطعام والشراب، بخلاف الخدمات الصحية المتردية. وتسبّب شحّ الموارد في تنفيذ مشروع التأمين الصحي الشامل للمواطنين على مراحل لعدم وجود موارد كافية لتعميمه على جميع المصريين دفعة واحدة. يجد المتابع لحال الموازنة العامة للبلاد خلال العام الحالي أنها من اليوم الأول لبدء تطبيقها في غرة يوليو الماضي كشفت عن اقتراض نحو 43 بالمئة من حجمها البالغ 1.9 تريليون جنيه، أي ما يعادل 115 مليار دولار. يُفضي تراكم الديون إلى زيادة قيمة برامج الحماية الاجتماعية للفقراء، بل وتجعل استمرارها عملية صعبة، حيث تستنزف خدمة الديون جزءا مهمّا من موارد البلاد، بما لا يمكن الحكومة من تقديم حماية كاملة للمواطنين ضد موجات الغلاء التي أثقلت ميزانية فئة كبيرة من الأسرة في مصر. رأت الحكومة أن الرأسمالية المتوحشة هي الحل لأزمة الاقتصاد، فحررت أسعار الطاقة والعملة ودعت الشعب للتحلّي بمزيد من الصبر، دون أن تكون هناك وقاية كافية لتوحش سياسات الإصلاح التي لا يمكن حلّها من الزيادات الزهيدة في معدلات الأجور. وراهنت القاهرة على تحسن الأوضاع خلال فترة القرض الكبير الذي حصلت عليه من صندوق النقد، وبعد ثلاث سنوات من الصبر وحصولها على كامل قيمة القرض البالغ 12 مليار دولار، لم يعُد أمامها إلا البحث عن سبل سريعة لإرضاء من تجرّعوا الدواء المرّ من المواطنين على مدار 36 شهرا أملا في تحسن أحوالهم. شد وجذب الحكومة قال حسام الغايش، عضو الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والتشريع، إن الدين يمثّل تحديا أمام الحكومة، وما يُقلّل من حدته تعزيز الاحتياطي النقدي من النقد الأجنبي في مصر الذي وصل إلى نحو 44.9 مليار دولار حتى نهاية يوليو الماضي. لكن غالبية الاحتياطي تم توفيره من خلال قروض متوسطة وطويلة الأجل، وما تمتلك مصر منه بوضوح حصة الذهب التي لا تتجاوز ثلاثة مليارات دولار. وأضاف لـ”العرب” أن فئة من الشعب تأثرت بشكل مباشر بسبب تفاقم الديون، لأن فوائده نافست حزم الدعم الموجهة لها في الموازنة العامة للدولة، ومن ثم كلما ارتفعت قيمة الديون زادت نسبة الالتزامات بالموازنة وتراجع الإنفاق على الخدمات المقدمة للمواطن. دفع هذا الوضع إعلان وزيريْ التربية والتعليم والصحة عن براءتهما من تردي جودة خدمات التعليم والصحة أمام لجنة الخطة والموازنة في مجلس النواب المصري قبل حوالي ثلاثة أشهر، الأمر الذي أثار أزمة داخل الحكومة. كان وزيرا التعليم والصحة طالبا أمام اللجنة البرلمانية بزيادة مخصصات كل وزارة بنحو 11 مليار جنيه، أي ما يعادل 667 مليون دولار لتحسين جودة الخدمات، إلا أن وزير المالية رفض طلبهما وقال ليس لدينا أموال لزيادة مخصّصات الصحة والتعليم في الموازنة. ترتب على تلك الأزمة توجيه تعليمات شفوية من جانب الحكومة لوسائل الإعلام التابعة للدولة بعدم نشر أسماء الوزراء وصورهم إلى حين إشعار آخر. ما يعني أن كلام وزيريْ التعليم والصحة نكأ جرحا عميقا في جسد الحكومة، حاولت مداراته أو علاجه. تتسق هذه الواقعة مع تقييم موديز الذي منح مصر تصنيف “ضعيف جدا” في مؤشر القوة المالية، الأمر الذي يعكس العجز المالي الكبير والدين الحكومي المرتفع، وتزايد حصة الدين الخارجي من إجمالي الديون منذ قرارات الإصلاح في 3 نوفمبر 2016. يتطلّب ذلك أن ينصبّ اهتمام الحكومة على قضية الديون ووضعها نُصب عينيها لعلاج تداعياتها مستقبلا، وأن تملك إجابة شافية حول السؤال الملحّ: هل الدولة قادرة على سداد الديون أم لا؟ جاءت تحذيرات موديز بعد أن أهلت مصر الساحة أمام جذب الاستثمارات الأجنبية والتي لم تأت بشكل لائق أو تتدفق بشكل يتلاءم مع خطط الإصلاح الطموحة حتى الآن. تفتح هذه النقطة بابا عاجلا لمواجهة الفساد بشكل يتناسب مع تجذره من خلال البيروقراطية العميقة التي شوّهت مناخ الاستثمار بالبلاد. وهى النقطة الأساسية التي يعتبرها البعض من الخبراء تقف وراء تعثّر تقدّم مصر في تقرير مناخ الأعمال الذي يصدره البنك الدولي. لم تُغفل موديز تلك النقطة، وقالت إن القوة المؤسسية في مصر ضعيفة، وهي أهم مكوّنات مؤشر الشفافية العالمية. ولا سبيل لمواجهة هذا التحدي إلا من خلال استغلال الطاقات الكامنة والاعتماد على القوى المحلية في تحريك مفاصل الاقتصاد من خلال المشروعات الصغيرة والمتوسطة التي تضخ دماء متجددة في شرايين الاقتصاد. ورغم الاهتمام السياسي بهذا القطاع وتوجيه السيسي للبنك المركزي بتوفير قروض بنحو 200 مليار جنيه (12 مليار دولار) لتمويل هذا القطاع بفائدة ميسرة تتراوح بين 5 و7 بالمئة، إلا أن ذلك لا يستطيع تحفيز الاقتصاد المتعثر والمؤسسات الصناعية التي أعيتها ديون محملة بفوائد تفوق قيمة أصل الديون على مدى سنوات. وصف المحلل الاقتصادي ياسر عمارة، الحالة المصرية بأنها لم تتعامل بجدية مع روافد مشكلة الديون، الأمر الذي زاد المعاناة خلال السنوات الماضية، وقاد إلى تفاقمها حاليا، ومرجّح أن تتضاعف المخاطر في المستقبل، إذا أخفقت الحكومة في إيجاد الحلول المناسبة. وقال لـ”العرب” إن سبب تفاقم أزمة الدين المحلي أن غالبيته يعتمد على تمويل الخزانة العامة من خلال طباعة الأموال بلا روية، لكن السيطرة عليه ليست مستبعدة طالما أنه لم يتعدّ نسبة 100 بالمئة من حجم الناتج المحلي. تحاول القاهرة التعامل بواقعية مع القضية، واتخذت حزمة من القرارات الإصلاحية الجريئة لتخفيف الضغط على الموازنة العامة وتمكينها من تحقيق نجاحات، وتخفيف عبء الدين، إلا أن تعثر الاقتصاد في السير بنفس سرعة القرارات يؤجج نيران الديون ويزيد من تبعاتها. وأكد رشاد عبده، رئيس المنتدى المصري للدراسات الاقتصادية، أن القضاء على الفساد والبيروقراطية وتفعيل القوانين والتشريعات سلاح الحكومة لمواجهة تفاقم أزمة الديون. وأوضح لـ”العرب” أن الأمور لن تستقيم، إلا من خلال هذا الثالوث حتى تطمئن رؤوس الأموال وتدخل مصر، إلى جانب البحث عن أسواق منسية لزيادة موارد البلاد من السياحة والصادرات لتقليل أعباء الدين. وأشار خبراء مصريون إلى أن السبيل الوحيد لمواجهة تحديات القروض يكمن في الاعتماد على الإمكانات المحلية المتاحة، في ظل استمرار تراجع معدلات النمو عالميا، بدلا من البحث عن الحلول سهلة لمواجهة تضخّم الدين، حتى يتسنى عدم ترك أزمات تقف عقبة أمام التقدّم. وقد يدفع التراخي في المواجهة بعض المؤسسات الدولية، التي أشادت بالتجربة المصرية، للانقلاب عليها في أي لحظة، لأنها تراقب عن كثب تطورات نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي، وهذا مؤشر مهم في جميع التقارير. وإذا نجحت الحكومة في تبنّي وصفة رشيدة من الممكن أن تحمي الدولة من مصائر بعض الدول التي عصفت بها الديون. الأمر الذي يتطلب عدم الإسراف في الاقتراض حاليا، وذهاب الأموال المقترضة لتوفير البنية الأساسية اللازمة لجذب الأموال من الخارج، وليس للاستعراض أو الإيحاء أن هناك نهضة عمرانية في مصر، لأن أي نهضة لن تكتمل ما لم تتحوّل إلى فوائض تخفف الأعباء عن المواطنين ولا تزيدها.

مشاركة :