استلهام دروس التاريخ لمواجهة تحديات الواقع

  • 9/5/2019
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

تسود الكثير من الأوساط المصرية الرسمية والشعبية حالة من الحنين إلى الماضي أو ما يعرف بـ”النوستالجيا”، تحاول ربط الطموحات التي تراهن على المشروعات القومية بما قام به مصريون منذ الآلاف من السنين، للإيحاء بأن الحاضر امتداد لمجد ماض، وربما لاستلهام الهمة منه، لدفع المواطنين إلى الصبر على الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الخانقة والتكاتف لعبورها. سواء جاء الربط الحضاري عن قصد أو بشكل عفوي، ففي الحالتين اعتاد المصريون على الإشادة بتاريخهم إلى حد المبالغة، وتحميله أكثر مما يحتمل، بصرف النظر عن حقيقة واقعهم المعيش ونظرتهم للمستقبل. وفي حواره مع “العرب” حاول وسيم السيسي الخبير المعروف في علم المصريات الرد على هذا السؤال المركزي: هل يبالغ المصريون في شغفهم بالتاريخ، أم هي النوستالجيا، التي تعبر في أحد تجلياتها عن التذمر من الفقر وواقع قاس أكثر من الفخر أو استلهام قيمه الحضارية. وهل بالإمكان استلهام دروس التاريخ في مواجهة تحديات الواقع. ووسيم السيسي هو طبيب مصري، له إسهامات متنوعة في الفكر والتاريخ، ومعني بشكل كبير بالحضارة المصرية القديمة، صدرت له كتب عديدة، أبرزها “الطب في مصر القديمة”، و”نظرة طبية فاحصة في الحب والجنس”، و”مصر التي لا تعرفونها”، و”مصر علمت العالم”، و”المسكوت عنه في التاريخ”. وفي بداية حديثه استحضر السيسي القصة التي كانت وراء تخصصه في الكتابة عن تاريخ مصر القديم عندما كان يدرس الطب في لندن، حيث حفزه الأستاذ الإنكليزي الذي تحدث بكل فخر عن أفضال بلاده على الإنسانية في إحدى المحاضرات، ليوقد داخله الرغبة في معرفة ماضي بلاده وتاريخها. ويقول “لقد أسهب (الأستاذ) في استعراضه، مشيدا بإسحاق نيوتن العالم الإنكليزي الذي كانت له إسهامات عظيمة في الفيزياء والرياضيات، والبريطاني تشارلز داروين أحد أهم باحثي التاريخ الطبيعي في العالم، ومكتشف البنسلين الأسكتلندي ألكسندر فلمنج”. فقد كان ذلك محفزا كافيا بالنسبة إليه لاختيار دراسة معمقة لحضارة مصر القديمة. الاستفادة من القيم الحضارية لا تمثل دراسة التاريخ ردة حضارية، ولا يمثل استدعاء الماضي تخلفا ونكوصا عن التقدم، فبعض من الماضي قد يكون أفضل من الحاضر، بل أكثر تحضرا ورُقيا. ففي الزمان السحيق ولدت قيم خالدة قد تفتقدها البشرية اليوم في ظل التقدم التكنولوجي المذهل. ويؤكد وسيم السيسي على “أن استدعاء قيم الحضارات القديمة قد يكون ضرورة لمواجهة الإرهاب، ومقاومة موجات الكراهية العاتية في المنطقة، فالحضارات القديمة قدمت للعالم أسسا ملهمة للتسامح والتعايش مع الآخر والعدل واحترام حقوق النساء”، ويبيّن قائلا “التاريخ وعاء للتجارب الإنسانية، وليس مجرد حجة للوقوف على الأطلال وتذكر الماضي، وإنما هو منصة حقيقية للانطلاق نحو المستقبل”. ويدعم المؤرخ المصري رأيه بمقولة المفكر الإنكليزي فرانسيس بيكون (1561ـ 1626) التي تؤكد أن تقدم أمة يعتمد على عدة ركائز أبرزها: تاريخها، وعلى الثورة الصناعية، وفصل المؤسسات الدينية عن السياسة، لذلك يكرر السيسي قوله “التاريخ يصلح أن يكون قاطرة نحو التقدم والرقي”. ويشير السيسي إلى أن “الحضارات القديمة زاخرة بقيم التسامح والتعايش واحترام الآخر، فالحضارات النهرية مثلا تعكس قيم التعاون والتكاتف والتعايش، ويتجلي كل ذلك في التضامن الجماعي لصد خطر الفيضان، والزراعة المشتركة”. الدين في مصر القديمة يؤكد المؤرخ المصري أن الدين لا يحض على العنف، لكن المشكلة تكمن في تصوراتنا له وتوارثنا لمعتقدات خاطئة تشجع على التعصب. وأشار إلى أن الدراسة العميقة للحضارات القديمة تكشف بوضوح أن هناك جذورا للأديان السماوية الثلاث في تصورات المصريين عن الدين؛ في المعتقدات والعبادات. ولفت إلى إن المصريين القدماء لم يكونوا من عبدة الأوثان، كما يروج البعض دون وعي أو بحث، بل عرفوا التوحيد مبكرا منذ عصر الدولة القديمة الأولى. كان الشائع أن الملك المصري أخناتون، هو أول من دعا إلى التوحيد، لكن وسيم السيسي يعتبرها مجرد “أكذوبة تفتقد إلى الوعي بالتاريخ، حيث عرفت مصر القديمة التوحيد منذ عهود الأسر الأولى، وليس أدل على ذلك من أن قراءة في متون (نصوص) الأهرامات قبل عهد الملك المصري أخناتون بمئات السنين وفيها عبارة: واو واو، بمعنى إله أحد، و: نن سنو، بمعنى ليس له ثان”. وتتكرر في نقوش المعابد القديمة ترانيم وصلوات المصريين لتردد “أيها الإله الواحد الذي ليس له ثان. يا مرشد الناس في السبل. يا شافي المرضى”. وعرف القدماء الصلاة والصوم والزكاة، وهناك الكثير من الكلمات العربية في القرآن الكريم مستوحاة من ألفاظ من اللغة المصرية القديمة. فكلمة “ماعون” الواردة في القرآن مصرية قديمة بمعنى زكاة. و تعني كلمة “صا ووم” عند المصريين القدامى الامتناع عن الطعام والشراب، وتكشف بعض البرديات أن المصريين عرفوا الصوم كإحدى العبادات، وهو ما جاء في القرآن بأن الصيام كتب على الأمم السابقة. وكان من الغريب أيضا أن تُظهر بعض النقوش على المعابد القديمة صفوفا من الناس، وهم يسجدون ويضعون ذقونهم وليس جباهها على الأرض، ما يتفق مع النص القرآني في سورة الإسراء “يخرون للأذقان سجدا” لأن السجود المعروف في الصلاة هو سجود بالجبهة، لكن سجود المصريين القدامى كان بالأذقان. وأضاف السيسي أن المصريين القدامى عرفوا الحج وأن كلمة “حج” لديهم تعني النور، كما أن كلمة “أز” تعني التوجه نحو شيء ما، وهنا فإن كلمة “حجاز” تعني التوجه نحو النور. وتابع قائلا “جسور التلاقي بين تصورات الدين القديم والتصورات الحالية تؤكد أن استلهام الحضارة وقيمها وثوابتها ترسيخ لفكر التسامح الغائب عن مجتمعاتنا اليوم”. أوضح وسيم السيسي أن هناك نكوصا من المثقفين العرب عن الغوص في الحضارات القديمة، واستدعاء منجزاتها الفكرية والإنسانية، بسبب التخوف من الصدام حول الأساطير الشعبية التي تناقلتها الأجيال جيلا بعد جيل، أو تصورات البعض عن الدين التي ترفض التشكيك فيها. وضرب مثلا على ذلك بأن البعض يكرر أسطورة عروس النيل باعتبارها حقيقة دامغة رغم أن ذكرها لم يطرح إلا من خلال قصة غريبة حكاها مؤرخ إغريقي يدعى بلوتارك، قال إن مصر مرت بسبع سنين من الجفاف، فقام ملك يدعى إيجبتوس بإلقاء ابنته في النيل لينتهي الجفاف. وفي الحقيقة لم يكن هناك ملك في قوائم الملوك المصريين اسمه إيجبتوس، كذلك فإن نصوص البرديات تخبرنا برفض القدماء لفكرة القرابين البشرية، فضلا عن كونهم أول من اخترعوا مقياسا للمياه، وهو مرسوم على معابد فيلة، ما يعني أنهم استخدموا العلم فقط في التعامل مع فيضان وجفاف النهر. وقدم السيسي مثالا لفكرة “الفرعون الإله” الشائعة، وحسب رأيه فهي افتراء من المؤرخين ذوي التوجهات غير المنصفة. ورد على ذلك بأن عهد الملك رمسيس الثالث شهد تشكيل محكمة من 15 قاضيا لمحاكمة ابن الملك، وتم الحكم عليه بالإعدام، ولو كان الناس يؤمنون بأن الملك إله، فإن ابنه بالضرورة هو إله أيضا، ولا يمكن لبشر أن يحاكم إلهه أو ابن إلهه. وتدحض قراءة نصوص الحكم والسياسة الأسطورة تماما. ونقرأ مثلا في وصايا الملك إلى وزيره حين كلفه بالوظيفة “اعلم أن الوزارة مرّة وليست حرّة. فإياك أن تقرّب إنسانا منك لأنه قريب مني، أو تبعد إنسانا لأنه بعيد عني. ليكن سبب القرب الوحيد هو الكفاءة. واعلم أن احترام الناس لن يتأتى إلا بالعدل”. وتُعد وثيقة شكاوى الفلاح الفصيح من الوثائق التقدمية المبهرة في حديث المواطن إلى المسؤول، وكأنه برلماني يراقبه، إذ نقرأ فيها مثلا قول الفلاح “اتق دنوّ الآخرة ولا تقل كذبا. لقد وليت وجهك شطر الظالمين”. وطرح المتخصص في علم المصريات تصورا، مفاده أن التاريخ القديم تعرض لمحاولات تشويه وتزوير عديدة من جانب مؤرخين لديهم أغراض مشبوهة، فكلمة “فرعون” لا تعبر عن ملوك المصريين القدماء، قائلا “خراطيش 561 ملكا مصريا لم يحمل أي منها لقب فرعون، وهو في الأصل مصطلح يشير إلى اسم بيت الحاكم”. وكشف أن العالم الفرنسي موريس بوكاي (1920ـ 1998) ذكر أن فرعون موسى المذكور في الكتب السماوية هو “مرنبتاح” لأن هناك لوحة تسجيل نصر تعود إلى عصره تتضمن النقوش الموجودة وعليها عبارة “طرد قبائل يسريل” من مصر، متصورا أن “يسريل” تلك تشير إلى بني إسرائيل. غير أنه يرى في ذلك افتراء، لأن هناك بالفعل قبائل باسم “يسريل” كانت تعيش في تركيا لا علاقة لها باليه ود، والملك “مرنبتاح” عاش خمسة أعوام بعد انتصاره على تلك القبائل. وأضاف السيسي أن الباحثين الساعين للربط بين التاريخ المصري وتاريخ العبرانيين، أشاعوا بعد ذلك أن رمسيس الثاني هو نفسه فرعون موسى، ووصل الأمر إلى أن حاولوا الانتقام من جثمانه عند عرضه في باريس خلال السبعينات من القرن الماضي. قانون الأخلاق القديم سلطت النصوص المصرية القديمة الضوء على مكانة الأخلاق ومكافحة الجريمة بعقوبات مختلفة كعنصرين أساسيين في جوهر حياة المصريين قديما، وشغلت مكارم الأخلاق حيزا كبيرا استند إلى خبرات وعادات اجتماعية متنوعة وممتدة عبر تاريخهم، في الوقت الذي نهض فيه الدين بدور بارز في تنظيم حياتهم في محيط الأسرة والمجتمع. تبعا لذلك دعا وسيم السيسي إلى الاستفادة من قانون الأخلاق القديم وتدريسه للتلاميذ في المدارس، باعتباره أقدم قانون أخلاقي، ويضم هذا القانون اعترافات المصري القديم أمام المحكمة الإلهية في الحياة الأخرى. وهو عبارة عن 42 اعترافا، منها اعترافات إنكارية بصيغة “لم أفعل” وأخرى إيجابية بصيغة “فعلت”. وشدد على أن استدعاء القانون الأخلاقي ضرورة لكسر موجات الكراهية المتفشية، فالحضارات القديمة إلى جانب تقدمها في العلوم والهندسة والفنون، اصطحبت معها تقدما في مجالات الحياة الاجتماعية الأخرى كالنظرة إلى المرأة والتعامل معها، وهي نظرة متقدمة فيها احترام وتقدير لها، على سبيل المثال قدم القدماء لزوجاتهم الورود كتعبير عن الحب. وخلص المؤرخ المصري وسيم السيسي في ختام حواره مع “العرب” بقوله “الشعوب تستقي معارفها وسماتها الشخصية من امتزاج الحضارات، وتلاقي الثقافات، وتنوع الأفكار والرؤى، ولا بديل لمواجهة التطرف والتعصب إلا من خلال التمسك بقيم الحضارات العظيمة”.

مشاركة :