تنقلك صفحات كتاب “وجوه من المغرب السينمائي” للناقد السينمائي المغربي أحمد سيجلماسي إلى الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي إلى الدار البيضاء، وإلى أطفال فقراء، كمحمد ركاب وأسرته الفقيرة، التي يعيلها والده الموظف البسيط في بلدية الدار البيضاء، الذي كان يجول وبصحبته عدد من الأطفال المغامرين يجمعون بينهم ما يجود به أهلهم عليهم من مال قليل، لكي يرتادوا القاعات السينمائية المظلمة ببعض الأحياء الشعبية بالدار البيضاء، ليشاهدوا بين وقت وآخر أفلاما أميركية وأوروبية ومصرية. وكان من أولئك الصحبة: مصطفى الخياط، محمد الزياني، أحمد البوعناني إضافة إلى محمد ركاب، وجميع هؤلاء الأطفال صاروا في ما بعد مخرجين سينمائيين أسسوا مع غيرهم للشريط الفيلمي المغربي الحديث. يتتبع الكتاب رحلة السينما المغربية وأهم نجومها منذ بداياتها إلى اليوم، وقد صدر مؤخرا في جزأين عن دار النشر المغربية بتمويل من مهرجان سيدي عثمان للسينما المغربية بالدار البيضاء. سينما الفقراء حياة الفقر في الخمسينات التي لاحظها هؤلاء الأطفال في “درب غلف” و“درب السلطان” و“المعاريف” وحواري قصبة كازابلانكا بقيت محفورة في ذاكرتهم. فهم وجدوا في تلك الأمكنة الفقيرة بالدار البيضاء، التي يعيش فيها الناس على الكفاف، ولكن بغنائية قل مثيلها. فركزوا على إظهارها في معظم شخصيات أفلامهم مع صفات أخرى كالكرم، والصداقة النقية، والسخرية من الفقر، والحلم بالهجرة، حيث المجد والمال والشهرة، كما كانوا يتخيلون في طفولتهم. والكتاب رحلة شيقة في سينما الفقراء، لأبطال من رواد القاعات المظلمة استطاعوا أن يصلوا إلى نور الشهرة، والسفر إلى العالم الواسع عبر ما قدموه من أفلام مهمة. جاءت أفلام رائد السينما المغربية محمد عصفور (1927ــ 2005) الذي أخرج أفلاما قصيرة، كتلك التي كان يخرجها الهواة في أوروبا، ابتداء من 1941. وكان يعرضها أمام الأطفال في أحيائهم الفقيرة في المقاهي الشعبية بدرب السلطان أو في فضاء فارغ مظلم من كراج للسيارات يقع خلف قاعة سينما الكواكب بشارع الفداء بالدار البيضاء. إن أفلام محمد ركاب مثل “رماد الزريبة” 1976 و“حلاق درب الفقراء” 1982 والعديد من الأفلام الوثائقية والأعمال الدرامية، التي أخرجها للتلفزيون المغربي كـ”قصة من زجاج” و“الحصار” و“شبح العاشق” تمثل جزءا من ذاكرة حياة الفقر التي عاشها ركاب بعد وفاة والده وهو صغير، ومعاناته المستمرة منذ ذلك الحين لإكمال دراسته الثانوية. وبعدها دفعه عشقه للسينما إلى الالتحاق بمدرسة “لوي لوميير” 1961 لدراسة التقنيات السينمائية، وبعد ذلك سافر إلى الاتحاد السوفيتي، ليلتحق بالمدرسة العليا للسينما بموسكو. وتخرج منها بدبلوم عال في إدارة التصوير السينمائي 1965 وأكمل دراسته الفنية بدراسة علم النفس بجامعة بروكسل ببلجيكا، وعاد إلى المغرب 1967 ليعمل بالتلفزيون المغربي. إن حياة الفقر التي عاشها الفنان في حواري الدار البيضاء كدرب السلطان تركته عليل الصدر يعاني من ضيق التنفس المستمر، مما اضطره في نهاية الأمر في يناير من العام 1990 إلى إجراء عملية لزرع رئتين بمستشفى فوش بباريس، ونجحت العملية، وأمدت بعمر الفنان عدة أشهر أخرى قبل أن يتوفى في أكتوبر من العام نفسه. لورانس العرب من الوجوه السينمائية المغربية التي تناولها الكتاب، محمد الحبشي، الذي بدأ كممثل مسرحي منذ منتصف الخمسينات بالدار البيضاء، والتحق بالمركز المغربي للأبحاث المسرحية بالرباط، ومدة الدراسة فيه ثلاث سنوات، وكان أول وقوف له أمام كاميرا السينما في سنة 1959 بالفيلم القصير “بوخو النجار” إخراج محمد عصفور. وبعد تخرجه من المركز المسرحي بالرباط 1961 عمل ببعض الفرق المسرحية، كفرقة البدوي وفرقة المعمورة وفرقة المسرح البلدي. وكانت أسرته رافضة لعمله في المسرح، وكان والده مزارعا وله أرض في منطقة النواصر بضواحي الدار البيضاء، وهو من أشد الرافضين لعمله في التمثيل، ولكن الفنان لم يعبأ برفض أسرته لعمله الفني. واتته الفرصة، فمثل دورا في فيلم “لورانس العرب” 1962 من إخراج الإنكليزي ديفيد لين، الذي مُثلت الكثير من مشاهده جنوب المغرب، بمشاركة نجوم عالميين كبار، كبيتر أوتول وأنطوني كوين وعمر الشريف. وتم اختيار محمد حبشي بعد ذلك، لتمثيل العديد من الأفلام المغربية كـ”ليالي أندلسية” إخراج العربي بناني 1963 و”شمس الضباع” إخراج التونسي رضا الباهي 1974 وتمثيل الفنان المصري محمود مرسي، و“رماد الزريبة” 1976 و“السراب” إخراج أحمد البوعناني 1979 و“تاغونجة” إخراج عبدو عشوبة 1980 و“بامو” إخراج إدريس المريني 1984. وما أن توفى والده في العام 1984، حتى شعر محمد الحبشي بتأنيب الضمير، لأنه لم يطع والده بترك التمثيل، وبقي والده غاضبا عليه حتى وفاته، فقرر أن يوقف فيلموغرافيته إلى الأبد، والعودة إلى أرض أبيه لزراعتها والاستقرار في قريته التي تركها. وبُذلت العديد من المحاولات والإغراءات من مخرجين مهمين ليشارك في أفلامهم، ولكنه كان دائم الرفض، لكل ما عرض عليه من عروض مغرية، ولكن الممثلة ثريا جبران استطاعت أن تقنعه بعد جهد كبير أن يمثل معها في فيلم تلفزي بعنوان “لاباس والو لاباس” إخراج حسن غنجة لقناة دوزيم المغربية. تبقى بطولة الفنان محمد الحبشي لفيلمي “السراب” و“حلاق درب الفقراء” علامة بارزة في مسيرته الفنية الحافلة بالتلقائية وتقديم ملامح شخصيات مغربية فقيرة، لكنها في قمة الذكاء والأريحية والكرم والشجاعة. توفي الفنان محمد الحبشي بعد معاناة طويلة مع مرض السرطان بالدارالبيضاء في العام 2013. ومن الوجوه السينمائية التي تناولها الكتاب أيضا مصطفى المسناوي، عبدالجبار الوزير، خديجة جمال، محمد خلفي، محمد عبازي، محمد بسطاوي، حميدو بنمسعود، محمد مجد، فاطمة الركراكي، نعيمة مشرقي، محمد الدهان، قويدر بناني وغيرهم. ومن الوجوه النسائية السينمائية، التي تناول حياتها الكاتب أمينة رشيد، التي أمضت في التمثيل المسرحي والتلفزي والسينمائي ستة عقود، وبدأت بتمثيلها في فيلم “طبيب بالعافية” من إخراج الفرنسي هنري جاك، عن نص مسرحي لموليير بعنوان “طبيب رغم أنفه”. والفيلم إنتاج فرنسي مصري مغربي مشترك مثل فيه كمال الشناوي، أميرة أمير، ومحمد التابعي، وغيرهم. وفيلم “غدا لن تتبدل الأرض” إخراج عبدالله المصباحي 1975 و“إبراهيم ياش؟” إخراج لنبيل لحلو 1982 و“البحث عن زوج امراتي” إخراج محمد عبدالرحمان التازي 1993. و“للا حبي” لمحمد عبدالرحمان التازي و“سارق الأحلام” إخراج حكيم نوري 1995 “سوزانا” للمخرج الإسباني أنطونيو تشافارياس 1996 و“فيها الملح والسكر وما بغاتش تموت” إخراج حكيم نوري 2005 و“حجاب الحب” إخراج عزيز السالمي 2008 و“زينب، زهرة أغمات” إخراج فريدة بورقية 2013 و“عايدة” إخراج إدريس المريني 2014.
مشاركة :