منذ خروجه ضمن وفد والده الإمام عبدالرحمن الفيصل آل سعود، الذي ضمَّ محمد بن فيصل، الشيخ عبدالله بن عبداللطيف، والشيخ حمد بن فارس، لعقد صلح مع ابن رشيد إثر حصاره الرياض، وهو لم يكن يتجاوز العاشرة من عمره؛ وقد نجح الوفد في المهمة إذ تم الاتفاق على الحدود السياسية والحدود الجغرافية للفريقين، وإطلاق سراح أسرى الجانبين أيضاً؛ فرحل ابن رشيد عائداً إلى حائل، ثم قابل عبدالعزيز زخور اللبناني مبعوث متصرف الأحساء عن الأتراك عاكف باشا في عين نجم رفقة والده الإمام عبدالرحمن الفيصل.. منذ يومئذٍ مروراً باستعادة الرياض فجر الخامس من شوال في العام 1319هـ، الموافق للخامس عشر من يناير العام 1902م، ورحلة توحيد الكيان الشَّـاقة المضنية التي استمرت ثلاثة عقود، وترسيخ البنيان، ثم ملحمة البناء التي شهدت إدارة ذكية لموارد محدودة، حقَّقت إنجازات أقرب إلى المعجزة من الحقيقة.. أقول منذ آنئذٍ حتى سلَّم الروح بارئها في الحوية ضحى الاثنين الثاني من ربيع الأول في العام 1373هـ، الموافق للتاسع من نوفمبر العام 1953م، والمؤسس البطل الفذ عبدالعزيز آل سعود في رحلة جهاد مستمر وعمل دؤوب يصل فيه الليل بالنهار، أفضى إلى دولة شامخة البنيان أصبحت اليوم شامة بارزة بين دول العالم أجمع، لا يُعْقَد أمر في منطقة الشرق الأوسط أو يُتَّخَذ قرار مصيري مهم من دون استشارة قادتها، ليس هذا فحسب، بل لا يتم اتخاذ القرارات المصيرية المهمة في العالم من دون سماع رأيها، إذ يكفي أنها تزود العالم بربع حاجته من الطاقة، وأول دولة في العالم تنبِّه إلى خطر التطرف والإرهاب وتتصدى لمحاربتهما، بعد أن اجتثت شأفة الإرهاب في سائر ربوعها، ثم أسست مركزاً عالمياً لمحاربته، وقدَّمت له دعماً سخياً بمئات الملايين من الدولارات، فضلاً عن إسهاماتها الخيرية حيثما كانت هنالك حاجة أو بلغ سمعها صوت استغاثة من أي دولة كانت، بغض النظر عن العقيدة والعرق والجنس واللون والهوية السياسية، ناهيك عن استضافة عشرات الملايين من الحجاج والمعتمرين والزوار من مختلف أنحاء العالم كل عام، وتوفير كل احتياجاتهم وتحقيق أمنهم واستقرارهم وراحتهم لأداء مناسكهم في سكينة واطمئنان، الأمر الذي يمثل جوهر رسالة هذه الدولة المباركة. كل هذا وغيره كثير مما يصعب حصره هنا إن لم يكن يستحيل تماماً، تحقق لنا بفضل الله سبحانه وتعالى، ثم بجهد المؤسس والد الجميع الملك الصالح عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود، طيَّب الله ثراه وجعل الجنة مثواه، صاحب الفكر المتقدم والرؤية الواضحة والرأي السديد، الذي كان يعمل بجد وصدق وهمة ونشاط وحسن نية ليستمر عطاء قافلة خيرنا القاصدة إلى الأبد - إن شاء الله -، بل ليزيد عهداً بعد عهد وعاماً إثر عام. وقد لخَّص الراحل الكبير سلطان الخير، ابن المؤسس وأخو سلمان الذي أسهم بقسط وافر في مسيرتنا المباركة هذه، دور عبدالعزيز الأساسي في هذا المشهد المهيب، إذ يقول: (لا شك أن كل ما ننعم به اليوم هو بفضل الله سبحانه وتعالى، ثم بفضل الملك عبدالعزيز، ومعه أولئك الرجال الذين حملوا أرواحهم على أكفهم مهما كانت التضحيات، حتى أصبحت بلادنا - ولله الحمد - واحة أمن بعد أن كانت مسرحاً للصراعات والفتن والحروب الأهلية المريرة.. وصارت بلادنا اليوم قوة سياسية ترمز إلى الاعتدال والحكمة وسلامة المنهج واستمراره على نحو يثير الإعجاب في عالم يتسم بالاضطراب الشديد). ويؤيده قائد مسيرتنا الظافرة اليوم سيدي الوالد المكرم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود - حفظه الله ورعاه - وسدَّد على طريق الخير خطاه، إذ يقول: (إن تاريخ الملك عبدالعزيز - يرحمه الله -، لا يقتصر على جوانب الكفاح وإنجازات التوحيد، وإن كان هذا في حد ذاته جهد عظيم تنوء بحمله العصبة من أولي القوة.. بل يبرز شخصيته الإنسانية وما تميزت به من صفات نادرة، ويتأكد لنا هذا من خلال آثاره في العالمين العربي والإسلامي والعالم ككل، وتلك المنجزات الهائلة التي حققها عبدالعزيز لوطنه وشعبه والأمتين العربية والإسلامية، ومناصرته لقضايا الحق والعدل والسلام في العالم). أجل، هكذا كان المؤسس عبدالعزيز، وما زال وسوف يظل أبداً - إن شاء الله - أكثر شخصية تاريخية آسرة بما وهبه الله من صفات قيادية قلَّ إن اجتمعت في غيره من قادة العصر الحديث وزعمائه، إذ كان بطلاً شجاعاً فذَّاً، وسياسياً بارعاً، وحكيماً نابهاً، وقائداً عبقرياً.. راعي الحزم والعزم والحسم والعدل، وموئل الجود والكرم والسماحة والتواضع، شديد الإيمان بربه، عظيم الثقة به، محباً لشعبه وحريصاً على وحدة العرب والمسلمين وخير الناس أجمعين، وكان مع هذا كله يتمتع بإنسانية متدفقة تمثلت في عنايته بالفقراء والمساكين، ورأفته بالضعفاء من رعيته، وقد رُويت في هذا حكايات تفوق الخيال، كنت أتمنى لو أن المجال يتسع لسرد بعضها. فلا غرو إذاً إن استطاعت أسرة آل سعود تحقيق هذا الاستمرار التاريخي المدهش، على العكس تماماً لتوقعات كل الخصوم وأمانيهم، إذ أسس عبدالعزيز لهذا من خلال تعزيز الحس الوطني وتقوية الأواصر بين أفراد رعيته وصهرهم في بوتقة واحدة ملؤها الحب والإخوة والتعاون على البر والتقوى والتكافل الاجتماعي في كل شيء، إذ كان موضوع الوحدة الوطنية يمثل أهم ملامح الدولة التي سعى عبدالعزيز بكل ما أوتي من قدرة وسعة حيلة لتأسيسها، حتى قبل استعادة الرياض في تلك الملحمة التاريخية الفريدة الرائعة التي جسَّدها بولس سلامة في رائعته (ملحمة عيد الرياض)، فأصبحنا اليوم ونحن نحتفي بذكرى يومنا الوطني التاسع والثمانين، بفضل الله سبحانه وتعالى، ثم برؤية المؤسس المتقدمة، كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. وورثنا عنه دولة قوية رائدة، يعمل لها العالم ألف حساب، لاسيَّما فيما يتعلق بالسياسة والاقتصاد، إذ لدينا مركز ثقل لا ينافسنا عليه أحد في العالمين العربي والإسلامي، ويستطيع قادتنا تشكيل تحالفات قوية فاعلة، سياسية واقتصادية وعسكرية في لمح البصر، والتجارب في هذا المجال ماثلة للعيان تغني عن الوصف والتحليل والتعليل، ولدينا جيش قوي بمواصفات الجيوش العالمية، يعد ضمن أقوى عشرة جيوش على مستوى العالم، والثالث عالمياً أيضاً من حيث الإنفاق على العدة والعتاد والتدريب على أرقى المستويات التي وصلت إليها التقنية اليوم، والرابع على مستوى منطقة الشرق الأوسط. فانتقلنا من الهجانة في عهد المؤسس، إلى الإواكس والشبح والقاذفات المتطورة.. والقادم أعظم إن شاء الله، باهتمام مليك الخير سلمان القائد الأعلى لكافة القوات العسكرية، وأسد عريننا المهيب أخي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، ولي عهدنا الأمين، مما سمح لجيشنا بالمشاركة في مناورات مع أعظم جيوش العالم، بما فيها الجيش الأميركي، فكان أداؤه مذهلاً. وأهم من هذا وذاك كله، عقيدة جيشنا القتالية التي ترتكز على عقيدته الإيمانية التي تمثل رسالة دولتنا المباركة، فقتالنا هو للدفاع عن صون استقلال ترابنا وسلامة مقدساتنا وكرامة شعبنا ونصرة الحق ونجدة المظلومين والمعذبين في الأرض حيثما كانوا، وقطع دابر المتطرفين والإرهابيين الذين يعيثون في الأرض فساداً وخراباً، كما يضطلع جيشنا العربي السعودي الباسل بدور مهم في مساعدة القوات النظامية الأخرى في حالات الطوارئ والكوارث وخدمة ضيوف الرحمن وتوفير أمنهم وأمانهم واطمئنانهم.
مشاركة :