يبدو أنه قد آن الأوان لإعادة فك وتركيب وزارتي الصناعة والاستثمار في مصر لحل مشكلة تراجع الاستثمارات الأجنبية المباشرة، بعد أن تسبب تضارب الاختصاصات بين الوزارتين في طرد عدد من المستثمرين الأجانب، وتأخر ترتيب القاهرة في تقرير مناخ الأعمال التابع للبنك الدولي. كشفت بعض القرارات الصادرة عن الحكومة المصرية غياب نسبي في الرؤية الجاذبة للاستثمار المباشر، فتارة يتم الدعوة لمحفزات وتيسيرات تعزز ثقة المستثمرين الأجانب في مناخ الأعمال، وأخرى تؤدي هذه الاستثمارات إلى أعباء مالية من خلال قرارات مفاجئة يراها بعض الخبراء غير مدروسة بعناية. وتسبب غياب أسس واضحة للحكومات المتعاقبة في هروب جزء من الاستثمارات الأجنبية، ويعد خروج عدد من الشركات الصينية من المنطقة الصناعية الصينية في العين السخنة عقب زيادة الضريبة على المشروعات العاملة في المناطق الصناعية الحرة من 10 بالمئة إلى 22.5 بالمئة مثالا واضحا على هذا الارتباك. يعدّ الاستقرار التشريعي من أهم محددات جذب الاستثمار الأجنبي المباشر لأي دولة، لأنه يُمكّن رؤوس الأموال من اتخاذ قرارات طويلة المدي في ظل هذا الاستقرار، الأمر الذي يعزز تواجدها وتوطنها، لكن هذا الاستقرار غاب في الحالة المصرية، لدرجة أن تشريعات اقتصادية مهمة مثل قانون الاستثمار الموحد ظلت في حالة تغيير دائم. يضاف إلى ذلك تغييرات في التشريعات الضريبية، وهى رسائل سلبية تعكس عدم استقرار مناخ الاستثمار وتؤثر مباشرة في العائد على ربحية المشروعات. وكأن الحكومة موهوبة في طرد المستثمرين ثم تلجأ في مراحل لاحقة إلى جذبهم عبر وعود بحل المشكلات التي تعوق تدفق الاستثمارات. فقبل أيام باغتت المستثمرين في المناطق الحرة بزيادة رسوم حق الانتفاع بنسب تصل لنحو 42 بالمئة، أعقبها بساعات صدور توجيه من رئيس الحكومة مصطفى مدبولي لوزراء الاستثمار والمالية والصناعة بتقديم تيسيرات جديدة لحلّ مشكلات المستثمرين وزيادة معدلات الاستثمار. وكشف ميزان المدفوعات عن الأشهر التسعة الأولى من العام الماضي عن تراجع في معدلات الاستثمار المباشر بنحو الربع تقريبا، بعد أن هبط من مستويات ستة مليارات دولار خلال نفس الفترة من العام المالي 2017- 2018 إلى نحو 4.6 مليار دولار خلال العام المالي التالي. رغم التراجع المزعج لم تعلن الحكومة صراحة عن إستراتيجية واضحة لزيادة معدلات الاستثمار الأجنبي المباشر، وفق خطوات تتضمّن استهداف الأسواق المصدرة للاستثمارات عالميا أو التركيز على جذب استثمارات تخصصية هي الأقرب للحالة المصرية. وتعنى الاستثمارات المتخصصة بتأهيل منطقة محددة لصناعة بعينها وما يتبعها من صناعات أخرى مغذية، ما يعزز من توطين الاستثمارات في البلاد. من أقرب المناطق الجاذبة لهذا النوع من الاستثمار، المنطقة الاقتصادية شرق قناة السويس، فسمات الاستثمارات التخصصية البحث عن مناطق لها قدرة على إعادة التصدير من خلال موقع جغرافي متميز، ومن أهم هذه المشروعات صناعات البتروكيماويات والسيارات. ومع أن المنطقة تقع في قلب حرية التجارة العالمية -المتباطئة حاليا- إلا أنها تحتاج لأفكار خارج الصندوق لجذب الاستثمارات المتخصصة بوفرة. وقد أعلنت وزارة التجارة والصناعة قبل عام ونصف العام عن خارطة استثمارية للمشروعات الصناعية، وحتى الآن لم تعلن عن شكل التقدم الذي أحرزته في هذه الخريطة. كما دخلت وزارة الاستثمار في نفس السباق وأعلنت عن طرح خارطة استثمارية خاصة بها تضم ثلاثة آلاف فرصة استثمارية في مختلف أرجاء البلاد. ومع هذه الجهود والإصلاحات الاقتصادية التي طبّقتها مصر على مدى سنوات لم تفلح في جذب استثمارات أجنبية موازية، الأمر الذي يوحي بوجود خلل في تلك المنظومة، وربما يدعو هذا التضارب في الاختصاصات إلى إعادة تفكيك وزارتي الاستثمار والصناعة ودمجهما في وزارة واحدة، بدلا من تعدد الحقائب الذي يستنزف موارد البلاد. ليس من المقبول أن تكون هناك هيئة عامة للاستثمار وأخرى للتنمية الصناعية، فتعدد هذه الجهات يرهق المستثمرين ويضعف مؤشرات مصر مع تقارير مناخ الأعمال التابع للبنك الدولي سنويا، وهو ما يفرض على الحكومة تصويب المسارات، ومعالجة الخلل الذي يعوق تقدم القاهرة في التصنيف الدولي المهم. ويتسبب تعدد الهيئات وتداخل اختصاصاتها في طرد الاستثمارات، لأن المسؤولين عن الشركات يقومون بجولة في أروقة هيئة الاستثمار لتأسيس المشروع ثم تبدأ مرحلة جديدة في ضياع الوقت مع هيئة التنمية الصناعية للحصول على تراخيص المشروع. لذلك فشلت فكرة “النافذة الموحدة” التي كانت تسعي القاهرة لتأسيسها في قانون الاستثمار الموحد، وتسببت البيروقراطية في تعديل مشروع هذا القانون لنحو 17 مرة وخرج في النهاية دونها، بعد أن أخفق التنسيق مع الوزارات المختلفة ودفع مراكز القوى لإفشال تأسيس نظام النافذة الموحدة. غضت القاهرة الطرف عن تلك الخطوة واكتفت بتأسيس مركز لخدمة المستثمرين يقدّم خدمة خمسة نجوم مقابل خمسة آلاف جنيه (نحو 303 دولارات) من خلال تخصيص موظف لمن يدفع مقابل الخدمة ويتعامل مع أوراق المشروع بدلا من أن يقف المستثمر في طابور طويل للانتظار. ورصد تقرير مناخ الأعمال مظاهر البيروقراطية المصرية ومنحها مؤشرات متأخرة في عمليات إنفاذ العقود، ومنحها المركز 160 ضمن قائمة تضم 190 دولة، وهذا المؤشر كفيل وحد أن يجعل المستثمر الأجنبي يدير ظهره لمصر. وزاد من ذلك مؤشر جودة الإجراءات القضائية، حيث منح مصر درجة 5.5 من إجمالي 18 درجة، إلى جانب طول عدد أيام التقاضي والتي تصل لنحو 1010 يوما. وقضت الخطوات التي اتخذت للإصلاح الاقتصادي على مشكلات وجود أسواق متعددة في سوق صرف العملات والتخلص من تشوهات الدعم التي منحت المنتجات المصرية متنفسا للمنافسة في الأسواق الخارجية. تفوق تحركات الرئيس عبدالفتاح السيسي في اتخاذ القرارات وحل المشكلات بكثير المسؤولين التنفيذيين الذين ينتظرون تنفيذ الأوامر بدون إبداع وهو ما تسبب في وجود فارق السرعات أدى إلى تباطؤ في جني ثمار برنامج الإصلاح وزيادة ترقب المستثمرين. كل هذه المؤشرات تعكس غياب الرؤية في إدارة ملف الاستثمار الأجنبي المباشر وبات وزراء المجموعة الاقتصادية يتقاذفون المسؤولية في ظل تداخل الاختصاصات، وأصبح لسان حالهم التركيز على التصريحات المتفائلة للفورة الاستثمارية المتوقّعة التي قد لا تأتي تقريبا، لأن النوايا الطيبة لن تصنع المعجزات.
مشاركة :