بلقاسم زغماتي وزير العدل الجزائري الذي يحارب الفساد العابر للحدود

  • 9/8/2019
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

توصف بـ”عدالة الليل” كناية عن الأوامر التي كان يتلقاها القضاة لتصفية قضية محرجة للسلطة. وتوصف أيضا بعدالة التلفون والكواليس والمحاباة والرشوة والفساد، وهي مزايا من الصعب أن تبارح ذهنية وعقول الجزائريين. وعندما تسأل أحدا عن العدالة في الجزائر سيقول لك بالفم العريض”عن أي عدالة تتحدث وهل هناك عدالة عندنا؟”. من هنا، قدم إلى المشهد رجل قد يتمكن من أن يعيد للعدالة رأسها وقوّتها. حيث لم تصل العدالة الجزائرية، وهي كغيرها في الكثير من بلدان العالم إلى الآن إلى تطبيق الأحكام بكل نزاهة وحزم وإنصاف. ربما يعود ذلك حسب الكثيرين إلى تعقيدات أنثربولوجية وسياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية تحكم ضمن شروطها واقع المجتمع الجزائري الذي لم يخرج بعد من عقلية البداوة إلى حاضر العصرنة وبناء المؤسسات الفاعلة والقوية. العدالة رهينة السلطة وزير العدل الجزائري بلقاسم زغماتي المولود في قوراية بولاية تيبازة، تدرّج في سلك القضاء وخبر تفاصيله ويعرف الكثير من خفاياه، والذي رأس عددا من المجالس القضائية النيابية من سنة 1981 إلى غاية تعيينه وزيرا هذه السنة. قصته مع النظام المعزول تكتنفها العديد من الهوامش السرية ومحاطة بالصمت والتحفظ كعادة رجال الدولة الجزائرية ذوي المناصب الحساسة. علاوة على ذهابه من سلك القضاء وعودته إليه أقوى من ذي قبل أي وزيرا بعد أربع سنوات من عدم الظهور، وهو الذي تحدى أركان النظام بإصداره مذكرة توقيف دولية في قضية فساد طالت الشركة الأهم والأقوى في الجزائر، أو ما يعرف بقضية “سوناطراك”، شملت الوزير الأسبق شكيب خليل أقرب وزير إلى بوتفليقة ورجل أميركا الأول في البلاد، كما يقال عنه، بل قيل إنه كان يتعامل مباشرة مع ديك تشيني نائب الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش، وما زالت إلى حد الآن ندوته الصحافية مطبوعة في الذهن حين قال فيها جملة عُدت علامة فارقة في مساره “على العدالة أن تُدلي بدلوها في هذه القضايا، ليس بالبيانات وإنما بإجراء قضائي”، فكلفه الأمر تنحيته سنة 2015 من منصبه كنائب عام لمجلس قضاء الجزائر. رهان نجاح مهمة زغماتي يقتضي الحزم الصارم والاستقلالية التامة عن مظاهر التدخلات والتأثيرات الخارجية، لأن الكثير من الإشارات تعطي الانطباع أن العدالة في الفترة الأخيرة لم تتحرك إلا بإيعاز من طرف الجيش هذه الجرأة التي لم يعهدها الجزائريون تأتي من رجل قضاء رفع سيف التحدي ومواجهة نظام يسيّر العدالة بالضغط وهوى النفوذ، جعل أعداء الصراحة والحقيقة كرئيس الوزراء المسجون اليوم أحمد أويحيى، والأمين العام السابق لحزب جبهة التحرير عمار سعداني، يتهمانه بتلقي أوامر فوقية في قضية إصدار مذكرة التوقيف الدولية، والعمالة للفريق توفيق القائد السابق لجهاز المخابرات والمسجون حاليا لتوريط خليل. ولكن ما زالت الأعراف والتقاليد العامة تسيطر على النظام العام في الجزائر، وهذا يعني أن الكثير من أمور الحكم والاحتكام هي رهينة بيد سلطة العروش والأسر والعائلات التي تمتلك نفوذا تاريخيا وإرثا اجتماعيا واسعا وثريا، فبعض الخلافات العميقة لا يمكن أن تحل إلا عندما تجتمع رؤوس العائلات الكبيرة، مثلما يحدث في الكثير من الأحيان بسبب خلافات حول الأراضي أو حول دية القتيل من عرش ما حيث لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتدخل العدالة إلا كطرف شاهد أو في أحسن الأحوال كطرف مهدّئ للخواطر وجبر الكسور. الصمت أو العزل طيلة عشرين سنة أو أكثر، صنع النظام عدالة على مقاسه وببذلة تليق بكل مناسبة هو الطرف الوحيد فيها الآمر والنافذ والمهيمن والمسيطر. هذا ما يتردد ويعاد التذكير به كلما حفرنا في أخدود هذه السنوات. اختفت ملفات قضايا كثيرة، دون أن يعرف أحد مصيرها، كقضية المجاهدين المزيفين التي فجرها عزيز ملوك المسؤول السابق في وزارة المجاهدين ووزارة العدل، وهي ملفات تحوي أكثر من 50 ملفا لمجاهدين زيفوا وثائقهم الإدارية، وراحوا يزعمون أنهم شاركوا في ثورة التحرير بين 1954 و1962، بهدف الاستفادة من مناصب عالية في وزارة العدل ومن علاوات مالية مرتفعة. وبعضها مس الاقتصاد مباشرة في مقتل، ووضع الجزائر في حالة من التدهور والإفلاس ولطخ سمعتها في المحافل الدولية كقضية بنك الخليفة الغامضة التي ما زالت تداعياتها تظلل سماء الجزائر ولم يتم الفصل فيها بعد ومعرفة كل أسرارها. الكثير من القضايا الأخرى ما زالت تلوح وتنتظر حتى أن بعض أصحابها ماتوا في السجن وبعضها نسي تماما، وطيلة حكم الرئيس المعزول عبدالعزيز بوتفليقة عمدت السلطة إلى طيّ وتحييد وتهميش التقارير القضائية والأمنية التي نبهت إلى ما يحدث في محيط العديد من الوزارات والهيئات والبنوك والشركات الاقتصادية العمومية من نهب منظم ومقنن ومدروس وأحيطت بالكتمان والسرية كان أبطالها مسؤولين مباشرين أو وسطاء أو رجال أعمال مقربين من دوائر هذه السلطة، ولم يتم توجيه أي اتهام أو اعتقال وعندما كانت الأمور تأخذ منحى خطيرا وتصاعديا يتم التضحية بأقل المسؤولين مرتبة وحتى عزل من يأخذ قرارا ضد إرادة السلطة أو الحاكم. ولذلك يبقى الفاصل ما بين تعيين زغماتي كنائب عام لقضاء الجزائر وتعيينه وزيرا للعدل، فاصلا طبعه حراك شارع لم ينقطع لحد الآن، حراك أسقط رؤوس الفساد المذهل الذي انكشفت أوراقه للعلن بعدما كان مستورا بفعل قوى أخفت ملامحه وأشكاله ورموزه. كان الفساد إلى غاية اندلاع الحراك معروفا بالهمس، بين الأصدقاء والأحباب، بين الحكام والمنتفعين، ولكنه كان أيضا واضحا في أعين القضاء والعدالة؛ ملفات ثقيلة بين أيدي القضاة والمحامين والنواب العامين ووكلاء الجمهورية كانت تجوب وتصول في قاعات المحاكم، تلتقط أصداؤها بين الحين والحين وتنشر في الصحف ولكنها لم تأخذ صداها المدوي إلا عندما تحرك الشارع بقوة لا نظير لها، وهي اليوم في خط مكشوف ومحمي من طرف هيئات أمنية وقضائية. رجل الميدان ولكن ماذا يمكن للوزير القوي اليوم في جهاز العدالة أن يقوم به في ظل حراك يتطلع إلى أن يرى هذه الأخيرة ترجع الحقوق لأصحابها وتقتصّ للمظلوم وتعيد الأمور إلى نصابها؟. زغماتي مطلع بشكل عميق على ملفات رؤوس الفساد ويعرف الصغيرة والكبيرة منها، وصاحب خبرة وتجربة ستؤهله لكي يلعب دورا كبيرا في تطهير سلك القضاء من الإغراءات والنفوذ والتسلط الذي تغلغل بعمق وتجذر في المحيط والنفوس والعقول. ربما كان له دور سياسي في فترة السابقة ولكنه لم يحسن تقدير الأمور بشكل جيد من ناحية التجاذبات السياسية التي كانت تتراوح بين الولاء والخضوع والتزلف وهي صفات لا يحسن القيام بها حسب المحيطين به، فهو صاحب مواقف لا تلين ولا تنكسر، بدليل أنه عزل مرتين في مساره بسبب تصديه لقوى خارج القانون الذي يعرفه ولا يعرف شيئا سواه. أعادت السلطة المرفوضة من الحراك، كما تسمى، للوزير الحالي اعتباره كرجل قانون “تاع الميدان” كما يقال بالعامية الجزائرية، ربما كانت تبحث عن رجل يوفق في التواصل مع الشارع الذي أصبح نهمه إلى محاسبة المفسدين كبيرا وضخما ومطلقا، رجل ثقة ويحسن التواصل والتحدث، فهو لبق ومتحكم ويعرف حجم الرهانات الموكلة بجهاز العدالة وأي خطأ يمكن أن يطيل من عمر الثقة التي انعدمت بين النظام والشارع. استعادة الثروات وفي تصريحاته الأخيرة قال زغماتي إن مكافحة الفساد “لن تكتمل وتبلغ غايتها إلاّ باسترجاع العائدات الإجرامية أي الأموال المنهوبة، والتي تشكل في وقتنا الراهن حجر الزاوية على المستويين الوطني والدولي، ذلك أن تجارب الدول التي سبقتنا في هذا الموضوع بينت أنه لا شيء يساهم بصورة فعالة في محاربة هذا النوع من الإجرام والوقاية منه سوى ملاحقة المذنبين في ذممهم المالية لاسترجاع ما نهبوه من أموال”. وأضاف إن “بلدنا يشهد حاليا مرحلة غير مسبوقة ظهر من خلالها المجتمع الجزائري على درجة عالية من الوعي أبهرت العالم كله، لاسيما وعيه بمخاطر الفساد وضرورة مكافحته وملاحقة المفسدين، الأمر الذي جعل القضاء يتصدر المشهد العام ويرتقي في أداء مهامه الدستورية إلى مستوى المطالب المشروعة للشعب وتطلعاته إلى حياة كريمة وغد أفضل”. وهو يرى أن المؤسسة القضائية قائمة بمهامها الدستورية في ضوء قوانين الجمهورية كحامية للحقوق والحريات الأساسية للجميع دون أي تمييز أو اعتبارات ظرفية أو شخصية خاصة، مهما بلغت درجتها أو كان نوعها وطبيعتها، فلا هدف أو غرض للقضاء الوطني في دولة الحق والقانون سوى إحقاق الحق وإعلاء سلطان القانون حفاظا على الأمن القانوني والقضائي داخل المجتمع. لأن خطورة آفة الفساد باعتبارها ليست محصورة في حدود الوطن بل هي جريمة عابرة للحدود ولها امتدادات في العديد من الدول، وهو يستشهد دوماً بإصدار منظمة الأمم المتحدة في سنة 2003 لصك دولي بعنوان اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لمساعدة الدول التي يصعب عليها بمفردها محاربة هذه الآفة لتعزيز مجالات التعاون مع بقية الدول. هذه التصريحات هي حجر الزاوية الذي سيرتكز عليه الوزير، فهي بالأساس أحد مطالب الحراك الذي لن يطمئن إلا إذا رأى هذه الأموال والمقدرة بالمليارات تعاد إلى خزينة الدولة. ورهان نجاح المهمة المنوطة به يقتضي الحزم الصارم والاستقلالية التامة عن مظاهر التدخلات والتأثيرات الخارجية وهي ما سيحاول الوزير العمل عليها، لأن الكثير من الإشارات الحادة تعطي الانطباع أن العدالة في الفترة الأخيرة لم تتحرك إلا بإيعاز من طرف الجيش وهو ما ينفيه هذا الأخير، ويؤكد عليه القضاء من خلال نوعية القضايا والأشخاص الذين يتوافدون على مجالسه والتي لم يكن أحد يصدق أنها في يوم ما ستقاد هكذا وتباعا. صورة زغماتي في أذهان العديد من الجزائريين تعطي الأمل في قدرته على تصحيح مسار العدل في دولة تتحرك اليوم في منعطف حاسم، وقد تميل كفة الميزان إلى جانب شعبها وشارعها الذي يبحث عن رمز يلوذ به من هول الظلم ويخرجه إلى فسحة الحق.

مشاركة :