تشهد العلاقات الإيرانية الأمريكية تدهورا ظاهريا منذ انسحاب واشنطن في مايو 2018 من اتفاق عام 2015، والذي تضمن أن تحد إيران من أنشطتها النووية لمدة من 10 إلى 15 سنة مقابل تخفيف العقوبات، وقد قيَّد هذا الاتفاق إيران من تخصيبها لليورانيوم، وسمح للفرق الدولية بالتفتيش عليها، ونصَّ على إعادة تصميم مفاعل يعمل بالماء الثقيل يجري بناؤه حتى لا تتمكن من إنتاج البلوتونيوم المستخدم في صنع الأسلحة النووية. وقد أعقب الانسحاب الأمريكي إصدار إدارة ترامب قائمة من 12 مطلبا لإبرام صفقة نووية جديدة لرفع العقوبات الأمريكية عن إيران، وشملت هذه المطالب: وقف إيران تطوير برنامج الصواريخ الباليستية، وإنهاء مشاركتها في النزاعات الإقليمية، وقد وصفت إيران المطالب الأمريكية بأنها غير مقبولة، ممَّا أدى إلى تصاعد التوتر بين الدولتين، وإبقاء العقوبات الاقتصادية وتشديدها عليها. لقد انتهج الرئيس الأمريكي في تفاعله مع الأزمة الإيرانية لغة التهديد والوعيد، بينما على الجانب الآخر انتهج الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سياسة التهدئة تجاه الملف الإيراني، حيث فاجأ الحاضرين في قمة الدول الصناعية السبع في مدينة بياريتز الفرنسية يوم 24 أغسطس بوجود وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف لإجراء محادثات معه في اليوم التالي؛ أي 25 أغسطس، وعلى هامش هذا التجمع رفض ترامب لقاء وزير الخارجية الإيراني قائلاً إنه «من السابق لأوانه» عقد هذا اللقاء، كما أن ترامب لم يُعلق على هذه الزيارة المفاجئة مكتفيًا بقوله: «لا تعليق». هذه التطورات ربما تشير إلى بوادر انفراجة في العلاقات السياسية بين الدولتين، وهو ما أشار إليه «فالي نصر»- في صحيفة الجارديان- حيث علق على هذا التجاذب بتغير الموقف الإيراني والبدء في مفاوضات ثنائية لبحث هذا الملف قائلا: «من خلال الظهور في بلدة (بياريتز) الفرنسية، أظهر ظريف لترامب أن إيران مهتمة بالمشاركة، وأن لديه تفويض من القائد الأعلى للحديث باسم إيران»، كما أنَّ ثمة إمكانية عقد اجتماع في سبتمبر بين روحاني وترامب عندما يحضران اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك وفق ما صرح به الأخير يوم 4/9/2019 للصحفيين في البيت الأبيض عندما سئل حول إمكانية إجراء هذا اللقاء، قائلا: «كل شيء ممكن»، مضيفًا أن إيران من مصلحتها التفاوض والتوصل إلى اتفاق. وعلى الرغم من الخلافات المتصاعدة بين أمريكا وإيران فإنها تأخذ مسارا تكتيكيا في سياسات كليهما، لأن لديهما وجهات نظر استراتيجية متشابهة إلى حد كبير من حيث التعامل الدبلوماسي إزاء الأزمة، فكلاهما يرغب في تعظيم تقويض مصالح الآخر مستخدمًا جميع المنهجيات العدائية من دون الانزلاق إلى أتون حرب. وقد حققت الدبلوماسية الأمريكية هذا المعنى في حملة (أقصى ضغط) لإجبار إيران على الرضوخ لمطالبها من خلال الضغط الاقتصادي والعزلة الدبلوماسية والترهيب العسكري. ويرى مؤيدو ترامب أن رغبته في المفاوضات مع إيران من خلال حملة (أقصى ضغط)، والتي تتألف من حزمة من العقوبات الاقتصادية والجهود الدبلوماسية قد نجحت، بينما يخلص معظم المحللين إلى أنها لم تكلل بالنجاح نتيجة نهجه العالي في المطالب، ونجاح الدبلوماسية الإيرانية في التعامل مع الأزمة. وفي مقابل هذه السياسة الأمريكية المتعالية تسعى إيران المتعالية أيضا بدورها إلى مقاومة هذا الضغط بشتَّى الطرق الممكنة، من دون الدخول في صراع مفتوح مع الولايات المتحدة وحلفائها، وإعادة التأكيد على خطابها الدعائي الثوري المعادي للإمبريالية الغربية، وتحدي المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، من خلال دعمها للمنظمات الإرهابية، واستهداف السفن في الخليج العربي، وتطوير تكنولوجيا الصواريخ النووية وغير ذلك. ويتبدى الموقف الإيراني في تعاليه أمام الإملاءات الأمريكية وعدم رضوخه لها، على الرغم من أن بعض المحللين يعتقد نظريا أنَّ إيران سوف تستسلم بالأخير؛ لأن واشنطن بحسب معطيات الواقع أقوى بكثير من إيران، وتُلحق أضرارًا كبيرة بالاقتصاد الإيراني، ولكن هذا لم يحدث بعد، وحول هذه الحقيقة يقول «أنتوني كوردسمان»- من مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية: «لقد عانت إيران كثيرًا من العقوبات الأمريكية، لكنها لم ترضخ أو تُبدي أي إشارات أمام أي تنامي خطير في السخط الشعبي الذي يشكل تهديدًا خطيرًا للنظام». ويدلل «أنتوني كوردسمان» على ذلك بفشل الحملة الأمريكية في تحقيق أهدافها حتى الآن، ومتانة الموقف الإيراني غير المستجيب للمطالب الأمريكية فيقول: «فلئن كانت حملة (أقصى ضغط) الأمريكية قد نجحت في إجهاد الاقتصاد الإيراني، وتقويض الجهود الأوروبية للحفاظ على خطة العمل الشاملة المشتركة، إلا أنها فشلت في كبح البرنامج الباليستي الإيراني، أو إطلاق سراح المعتقلين الأمريكيين أو إنهاء دعم إيران لوكلائها من الجماعات الإرهابية في الشرق الأوسط». والتعالي الإيراني ضد المطالب والضغوط الأمريكية كلل بالنجاح المؤقت من خلال الرد الإيراني الدبلوماسي الجريء الذي أخذ استجابتين؛ الاستجابة الأولى: تمثلت في تحول لافت في موقف ترامب حول هذه القضية، والاستجابة الثانية: تمثلت في تجاوز الرئيس الأمريكي خطابه العدائي بشأن إيران وتناوله بدائل لموقفه الضاغط السابق، والتماسه لطرق أقل عدائية ودبلوماسية من أجل إحضار طهران إلى طاولة المفاوضات، وقد ظهر هذا جليا في تصريح ترامب أمام مجموعة السبع؛ حيث قال: «نحن لا نبحث عن تغيير النظام، لقد رأيت كيف كان تأثير هذا على مدار العشرين عامًا الماضية»، وهذا التصريح تضمن تحولا في موقف ترامب لاسترجاع الثقة المفقودة بين الجانبين. وقد توالت التحولات في موقف الرئيس الأمريكي؛ فقد بيَّن أن الدول الأخرى متاح لها أن تقدم خط ائتمان دولي لإيران دون أن تتأثر بالعقوبات الأمريكية، وواضح أنَّ الحالة الإيرانية كغيرها من القضايا المطروحة على الصعيد الدولي ما هي إلا بينة ودلالة على التعامل المندفع والمتردد في شخصية دونالد ترامب المفعم بالتغييرات والممتلئ بالمواقف المتناقضة إزاء القضايا الدولية؛ ومن ثمَّ لا نستبعد أن يفاجئنا بتقديم مبادرات جديدة لبدء مفاوضات ثنائية في المستقبل مع طهران. وإذا كان تحول ترامب تجاه الأزمة الإيرانية يعدُّ دليلا على مدى فشل الدبلوماسية الأمريكية في معالجة هذه القضية ونجاح إيران في الذود عن موقفها فإن نجاحا آخر حققتها الدبلوماسية الإيرانية تمثل في سعي المجموعة الأوروبية لمساعدة إيران على تجنُّب العقوبات الأمريكية، وتبين ذلك من خلال عرضها تقديم قرض لإيران قيمته 15 مليار دولار وإنشاء أداة دعم للتبادل التجاري مع إيران، أُطلق عليها الآلية المالية (أنيستكس) في يناير من العام الجاري 2019. وهذه الآلية التجارية تسمح لطهران بالتعامل المالي مع الدول الأوروبية بعملات بديلة للدولار. بيد أنَّ هذه الآلية التي تخفف من العقوبات قد تعاقب الدول التي تتبناها مستقبلا، وفي هذا الصدد قالت «إيلي غيرانمايه» -من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية لصحيفة فاينانشيال تايمز: «قد تكون كل من الدول الأوروبية وإيران على حد سواء واهمتان إذا ما ظن كلاهما أن هذه الآلية تمثل سلاحًا فعالاً لمواجهة جميع العقوبات التجارية... لكنها رغم ذلك إشارة سياسية إلى أن الدول الأوروبية جادة بشأن التزاماتها وترغب في اتخاذ خطوات ملموسة للحفاظ على الاتفاق النووي»، وعلى صعيد آخر يرى المراقبون أن هذه الآلية لا قيمة لها حاليًا، إلا أنها تمثل تحديًّا أوروبيا للولايات المتحدة. ووفقا لهذه المعطيات السياسية الدولية الناتجة عن التعامل مع الأزمة نرى أنها أعطت للدبلوماسية الإيرانية نجاحا في تفاعلها مع الملف النووي- في مقابل الموقف الأمريكي المتذبذب- إلا أنَّ استمرار هذا النجاح غير مضمون، فقد تتخلى بعض دول أوروبا عن وقوفها مع إيران نظرًا إلى سلوكياتها العدوانية في الخليج، فبريطانيا احتُجِزت أحد سفنها وغيرت موقفها، كما أنَّ إيران مازالت متبعة لسياسة دبلوماسية الرهائن، وفي هذا الصدد يقول «آدم تايلور»- المتخصص في الشؤون الخارجية لصحيفة واشنطن بوست: «رغم دعم الأوروبيين للإيرانيين وهو ما يعتبر تحدّيا للولايات المتحدة، إلا أن بقاء هذا الدعم غير مضمون. ولا تزال لندن وباريس وبرلين تنتقد عددًا من جوانب سياسة إيران الخارجية». ومن هنا نرى أن سلوكيات إيران المزعزعة للاستقرار في الشرق الأوسط قد تقوض أي احتمال لاستمرار نجاحاتها نظرًا إلى كونها مازالت ترعى الإرهاب، وماضية في تطوير برنامجها النووي، وقد يندلع صراع ما مع الولايات المتحدة وحلفائها دون سابق إنذار ومن ثمَّ قد لا تتم أي مفاوضات، وتنتهي بذلك عقيدة الصبر الاستراتيجي التي تحلى بها كلا الجانبين الإيراني والأمريكي، وإزاء كل هذه الاحتمالات يبدو أنه من غير المرجح أن تغير إيران سلوكياتها رغم تراجع الموقف الأمريكي ورغبته في التفاوض. ونختم بالقول، إنَّ إيران استطاعت التعامل مع أزمتها مع الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن هذا الأمر مؤقت ولن يدوم طويلاً، وبخاصة في ظل استمرار إيران في سياسة زعزعة استقرار المنطقة من خلال: دعم المنظمات الإرهابية، وإعاقة الملاحة البحرية، ومواصلة التخصيب، ومن ثمَّ فهذه الأنشطة تعرض إيران لحرب مع الولايات المتحدة وحلفائها وستواجه فيها طهران هزيمة مؤكدة بسبب تفوق أمريكا عسكريًا وتكنولوجيا، ولذلك فإن المفاوضات هي الحل لتجنيب المنطقة حربا تبدو عواقبها كبيرة ومخاطرها جسيمة.
مشاركة :