ليس على كتاب الأدب للكبار أن يكتبوا الأدب للصغار

  • 9/12/2019
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

تحوي أعمال الكاتب الأردني هاشم غرايبة الروائية فصولًا من سيرته الذاتية لكنه مؤخرًا أصدر سيرته الذاتية بعنوان “سنة واحدة تكفي”.. يقول في هذا الصدد “السيرة ذاكرة. عندما فتح السؤال خزانة الذاكرة، ظهرت لي الصور مُحسّنة، وكأنها ‘فوتوشوب‘. شعرت أنها تخصّ شخصا آخر، من هو الذي يقبع هناك في ‘القاووش‘ الجنوبي لسجن أربد؟ ذلك الآخر هو أنا، لكن من منّا نحن الاثنين، يكتب الآن عن تلك التجربة؟ من هو ذلك الطفل الذي كان يحصي النجوم في قريته حوارة ويلاعبها حتى تهجع حول فراشه كسرب يمام. وبماذا يفيد الجواب ما دام الكتاب بين يدي القارئ يُؤوله كيفما شاء؟”. يتابع غرايبة “خيط رفيع ومخاتل يفصل بين الخاص والعام، والذاتي والموضوعي، المتخيّل والواقعي في النص الأدبي، فعندما تحضر أجزاء من تجربة الكاتب الحياتية في نصّ ما، فإنّ ما يستدعي هذا الجزء أو ذاك ويعطيه حق المثول في معمار العمل الأدبي، هو النسق الذي تسير به الرواية أو القصة أو المسرحية، ومدى ملائمتها للبناء الفني للنص. عندها يذوب الجزء في الكل، يصبح تأويله خاضعا لمنطوق الجنس الأدبي بكليته”. الكتابة والكاتب عن أوجه الاختلاف بين حقليْ السيرة الذاتية والكتابة الروائية، يقول هاشم غرايبة “الاختلاف بين ‘سيرة‘ وسرد روائي أو قصصي أو مسرحي يكمُن في ‘القصدية‘، قصدية اختيار الجنس الأدبي. عندما تكتب بضمير المتكلم فأنت تمتحن شجاعتك بتبني فضائحك وزلاتك واضطراب مشاعرك، ويكشف قدرتك على الارتفاع بالواقع المعيش إلى مقام الفن. الذاكرة تُبقي وتحذف على هواها، كثيرة هي الأحداث الصغيرة جعلتها كبيرة، والأحداث الكبيرة جعلتها صغيرة. فنكتشف أن استعادة المشهد أكثر متعة من معايشته. هكذا نظرت إلى الخلف بروية، واخترت ‘سنة واحدة’ لتمثّلني، فكتاب ‘سنة واحدة تكفي’ ثلاثة فصول، الفصل الأوسط منه كتبته بضمير الغائب لأتخفف من عبء ‘الأنا’، ولأنبّه أن ما من كاتب يمكن أن يكتب سيرة مطابقة للواقع ولو كان القديس أوغسطين”. الرواية تميل إلى سل الخيوط الملونة والقوية من صفحات التاريخ لتنسج منها بساطا متماسكا وجميلا وجاذبا “ديوان الغجر: حكايات وأشعار عن مجتمع الغجر” هو عنوان الكتاب الجديد الذي ينتظر الكاتب صدوره، وعنه يقول الكاتب “حادثة عرضية قادتني إلى مضارب الغجر، وأغرتني بكتابة رواية ‘حميد كيا والآنسة خواتم’ التي ما زلت عاكفا على تعشيبها وتمشيطها وسقايتها. أثناء كتابة الرواية تكوّن لديّ أرشيف غني عن الغجر: حكاياتهم. أشعارهم. سلوكياتهم. علاقاتهم الداخلية. معتقداتهم.. فكان ‘ديوان الغجر‘ وهو نتاج بحث ميداني ومعايشة عن قرب دامت سنتين ونيف مع مخيّمات الغجر في الأردن”. ويضيف “الغجر يميلون إلى المحو والنسيان. والكتابة تدوين وتذكير، وإذا كانت الملل البشرية قد قدّست مدوّناتها المثيولوجية، فإننا لا نجد لدى الغجر نصا مقدسا، ولا حكاية مركزية تمجد الأجداد والجدات. لكننا نجد حكايات وأشعارا وأمثالا وسلوكيات وقيما وعادات وتقاليد مشتركة، تشكِّل نمط عيش مقدّسا عندهم، تحرسه ‘لعنة خفية‘ أو ‘نعمة مقدسة‘ لا ندرك سرّها، لكننا نحاول أن نستشف أيقوناتها المتخفية عبر أشعار وحكايات شفوية متحركة عابرة للزمان والمكان”. ثمة اهتمام بالتاريخ، على وجه الخصوص ما يتعلق بوطنه، في عدد من أعمال الكاتب الروائية، وهو ما يطرح السؤال حول كيفية التعامل مع المادة التاريخية وتوظيفها روائيّا، وهنا يقول غرايبة “إن حادثة حدثت في الماضي أرويها الآن، يعني أني أرويها كما تحدث الآن في ذاكرتي، وليست كما حدثت في الماضي، أستعير الواقعة التاريخية والنقش القديم والوثيقة المتفق على صحتها وأعيد غرسها في غابة النص لتؤتي أكلها من جديد. عندما حوّلت رواية ‘أوراق معبد الكتبا‘ المزق والشظايا والمعارف والوثائق والنقوش والسرود إلى بنية كلية متجانسة نابضة في رواية تُعيد بناء الماضي لتكشف معنى الواقع المعيش وغايته، صارت سردية موازية للتاريخ، ولو صنّفت أنها تاريخية. ويتابع “التاريخ مليء بالمغالطات، ويغصّ بالأخبار المتناقضة حول الواقعة الواحدة، أما الرواية فتميل إلى سلّ الخيوط الملوّنة والقوية من صفحات التاريخ لتنسج منها بساطا متماسكا وجميلا وجاذبا، وقادرا على جذب القارئ إلى معارف إنسانية جديدة”. إتقان الصنعة بالحديث عن أعماله الأولى، يقول غرايبة “أود لو أعيد صياغة كل ما كتبت سابقا. فقد صرتُ أكثر إتقانا لـ‘الصنعة‘، لكني ما زلت فخورا بمجموعتي القصصية الأولى ‘هموم صغيرة‘، وروايتي الأولى ‘المقامة الرملية‘. جدي ومعلّمان في مراحل التعليم المدرسي هم من وضعوا قلمي في خدمة الأدب؛ جدي كان قاصا ماهرا وكان الناس يحبّونه لأنه يروي لهم الحكايات في المساء، وبعد عناء يوم حصاد طويل، كان يجتمع عنده أهل القرية.. وكان أهل قريتنا يحبّونه لأنه يقُصّ عليهم الحكايات”. في كتابه “المخفي أعظم” الحاوي لعدد من آرائه النقدية، وجّه غرايبة سؤالا “إلى أين يسير الأدب” واستعار إجابة رولان بارت “يسير نحو ذاته، ماهيته، نحو نهايته التي هي اختفاؤه”. وفي هذا الصدد يوضح غرايبة أن التقدّم التكنولوجي الذي يتسارع كل يوم سيلغي كثيرا من المهن، وسيستغني البشر عن كثير من المهارات، وربما ستزداد حاجته للمهارات الذهنية ومن بينها ‘القص‘. ولكن ما شكل القص وإلى أين ستؤول الأجناس الأدبية؟ من هنا، يتوقف أمام الأسئلة التي توجهها وسائل التواصل الاجتماعي (بماذا تفكر؟ ماذا يحدث؟ شارك قصتك..) ويتساءل هل سيصوغ تويتر والفيسبوك الأجناس الأدبية المستقبلية. ويضيف “يشهد الأدب الحديث تحولات كبيرة في الشكل وفي المضامين منحازا ومتفاعلا مع ثقافة الصورة. ولكن الصورة بحاجة إلى حكاية ليست كالقصة والرواية التي ألفناها، وشعرا ليس كالشعر الذي نحفظه. الكتابة التفاعلية اليوم فيها شعر ليس كالشعر الذي طرب له جيلنا. وقصة ليست كالقصة المصنّفة أكاديميا، هل ستصمد الرواية أمام ما تزعزعه الميديا الحديثة من ثوابت؟ ربما. حكايات الصغير حتى ينام، وأغاني الأمهات هي الأقدر على الصمود مستقبلا، وربما سيقول أحفادنا: كان أجدادنا يروون القصص ويحبون الروايات! ربما سأعدل على مقولة رولان بارت، فأقول: يسير الأدب نحو ذاته، نحو ماهيته، نحو “بدايته”. انتقالا للحديث عن أدب الطفل الذي يحضر في إبداع غرايبة، يؤكد الروائي أن الكتابة للأطفال محكومة بالظروف العامة: سياسات التربية والتعليم، السلوكيات المجتمعية والأسرية السائدة. عمليات الإنتاج والمونتاج لكتاب الطفل، مدى حساسية الكاتب للفئة العمرية المستهدفة، كل هذه الظروف أنتجت عربيا أدب أطفال ضعيف، فعندما تحصل النشاطات الموجهة للأطفال على نصف ما تحظى به الكتب المدرسية في المجتمع العربي سيزداد الطلب على ما ينتجه المبدعون للأطفال، وسيحتدم التنافس ويتحسن المنتج. ويتابع “لا أدعو الكتّاب الذين يكتبون للكبار كي يكتبوا للصغار. بل أدعو المتخصصين بالكتابة للأطفال أن يصيروا كتّابا كبارا في ميدانهم. من جانبي، حرصت دائما على امتحان قصتي مع الفئة العمرية المستهدفة. لأن القصة التي يُشيح عنها الطفل لا ينفعها تقريظ الكبار، ولا ولع التربويين بالوعظ والإرشاد، ووجدت أفضل درس لي في الكتابة للأطفال في كتاب “الأمير الصغير” للكاتب الفرنسي أنطوان دو سانت إكزوبيري. وهو رواية صغيرة ليست موجهة للأطفال، لكنه كتاب يفهم الطفل فهما عميقا. ويدلنا على مواطن قصورنا في فهم كيف يفكّر الطفل.

مشاركة :