د. علي جمعة:د. يوسف إبراهيم: تؤكد التقارير الاقتصادية والأمنية في العديد من البلاد العربية أن مئات المليارات من المال العام تهدر سنوياً؛ بسبب ضعف الضمير الأخلاقي؛ وشيوع الفساد بين فئات تفتقد الحس الديني والوطني، الأمر الذي يشكل خطورة داهمة على الاقتصاد، ويقف عقبة أمام اتجاه الدولة نحو التطور.إن مكافحة الفساد تتطلب نشر الوعي الديني بحرمة المال العام إلى جانب تشديد عقوبات الانحرافات المالية، وإساءة استغلال السلطة، لتحقيق مآرب شخصية، وتجاوزات الموظف العام، وجميع صور الجرائم الاقتصادية المستحدثة، وتفعيل قوانين مكافحة جرائم غسل الأموال، وهذه القضية ذات الأهمية الكبرى تطرح سؤالاً مهماً عن عطاء الإسلام في مواجهة كل صور الفساد الاقتصادي وحماية المال العام وهو ما حاولنا الإجابة عنه من خلال السطور التالية:في البداية يؤكد العالم الأزهري د. علي جمعة، مفتي مصر السابق، عضو هيئة كبار العلماء، أن الشريعة الإسلامية وفرت حماية كاملة للمال العام، وأن شيوع الفساد بين بعض فئات المجتمع يرجع إلى ضعف الوازع الديني إلى جانب قصور إجراءات الحماية وضعف العقوبات.. ويقول: الإسلام قرر في تشريعاته المتعددة وأخلاقياته وآداب المعاملات حرمة المال العام، وحذر جميع المسلمين من أن تمتد أياديهم إلى شيء منه؛ بل قرر عقوبات رادعة لكل من تسول له نفسه استحلال شيء من هذا المال لنفسه أو لغيره من دون وجه حق.والأهم من التحذيرات والعقوبات التي لا تكفي وحدها لحماية المال العام ما عنيت به شريعتنا الغراء من تربية أخلاقية لكل مسلم حتى يجد رادعاً داخلياً يمنعه من أن يتلاعب به الشيطان ويدفعه إلى العدوان أو السطو على المال العام. خط الدفاع الأول ويضيف: حرمة المال العام في الإسلام واضحة في آدابه وتشريعاته، والتحذير الشديد من العدوان عليه موجود في العديد من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، والإسلام في مثل هذه الأمور الخطرة التي يضعف فيها الإنسان أمام شهواته وأطماعه يلجأ إلى أسلوب التربية لأن العقوبات الرادعة هنا لا تكفي وحدها لردع الطامعين في المال العام، ولنا أن نتأمل واقعنا في العالم العربي؛ حيث يتعرض بعض لصوص المال العام إلى عقوبات رادعة، وما زالت رغم ذلك جرائم العدوان على المال العام مستمرة. ويوضح مفتي مصر السابق أن الإسلام في سبيل حفاظه على المال العام يهتم بأن يغرس في الناس حرمته، ويجرم امتداد يد الإنسان إلى القليل منه؛ لأن من يستحل القليل يستحل الكثير، وهو في سبيل تحقيق هذا الهدف الديني والأخلاقي يهتم بأن يجعل الإنسان رقيباً على نفسه، يحاسبها قبل أن تحاسب، ولذلك تجد نصوص الإسلام من قرآن وسنة نبوية صحيحة تؤكد للإنسان أن الله تعالى مطلع عليه، وأنه معه في كل وقت، يقول سبحانه: «ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم»، (المجادلة: 7) ويقول عز وجل: «وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين»، (يونس: 16). فالإسلام من خلال هذه النصوص وغيرها يجعل الإنسان رقيباً على نفسه فهو مطالب شرعاً بمراقبتها وكبح جماحها، فإذا تحقق له ذلك، فإنه لن يحتاج إلى رقيب من المجتمع، أما إذا ألقى تعاليم دينه وراء ظهره، وغفل عن مراقبة خالقه له فإنه يحتاج إلى كل رقيب فإذا تربى الإنسان على قيمة المحافظة على المال العام، ونشأ في تكوينه على أن المحافظة عليه عبادة من أهم العبادات، وأن تبديده والعبث به معصية من أكبر المعاصي، كان ذلك الشعور وهذا الإحساس خط الدفاع الأول عن المال العام. أي أن الإسلام يعمد إلى تربية الفرد تربية تجعله يقظ الضمير، مراقباً لربه في كل سلوكاته، ثم يقيمه بعد ذلك حارساً على تعاليم الشريعة في كل مجال، ومنها مجال المال العام. رقابة ذاتية أستاذ الاقتصاد الإسلامي بجامعة الأزهر، د. يوسف إبراهيم، يرى أن التسلح بتعاليم الإسلام وآدابه وأخلاقياته في التعامل مع المال العام يوفر له أفضل حماية، ويقول: الإسلام غرس في نفوس المسلمين قيمة المحافظة على المال العام، وهناك وسائل كثيرة ومتنوعة تحقق هذا الهدف الكبير حتى إنه جعل العبادات المختلفة وسائل لتربيتهم أخلاقياً، وتهذيب ضمائرهم، وربطهم بربهم آناء الليل وأطراف النهار، وجعل من سلوك الفرد في حياته مع الناس عنواناً على صحة أدائه لهذه العبادات، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً»، فالهدف من العبادات الإسلامية تزكية النفوس، وتقوية مراقبتها لله تعالى، ومن ثم امتثالها لأوامره في حماية المال العام. خلق الأمانة وإلى جانب عطاء العبادات الإسلامية يأتي العطاء الأخلاقي للإسلام؛ حيث يغرس خلق الأمانة في نفوس الناس بشتى الطرق، تارة بالترغيب في هذه الفضيلة، وأخرى بنفي الإسلام والإيمان عمن لم يحرص عليها، فنجد الأمانة قاسماً مشتركاً في صفات المؤمنين في معظم المواضع التي ذكرت فيها هذه الصفة في القرآن الكريم، فالصفة الخامسة للمؤمنين في سورة (المؤمنون) والصفة السادسة لهم في سورة (المعارج) تقول: «والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون»، كما أن عدم وجود صفة الأمانة ينفي عن الشخص الإيمان، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا دين لمن لا أمانة له» ويجعله في عداد المنافقين فيقول: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان»، والمسلم الحق يحرص أشد الحرص على اكتساب وصف الإيمان، والتخلص من النفاق.كما يحارب الإسلام جريمة الخيانة بشتى الصور؛ حيث يقول الحق سبحانه: «إن الله لا يحب الخائنين»، (الأنفال: 85) ويقول عز وجل: «يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون»، (الأنفال: 72) وقد توعد الحق سبحانه من يخون ويختلس شيئاً من المال العام بالعذاب الأليم فقال عز وجل: «ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة»، (آل عمران: 161) ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ومن استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطا فما فوقه كان غلولا يأتي به يوم القيامة». واجب كل أسرة وينتهي أستاذ الاقتصاد الإسلامي بالأزهر إلى تأكيد أن التربية الإسلامية الصحيحة توفر الحماية للمال العام، ويقول: علينا أن نربي أبناءنا تربية تجعلهم ذاكرين لربهم مراقبين له، وتجعل الأمانة صفة ملازمة للإيمان، والخيانة صفة مناقضة له، وعلينا أن ندرك أن الله عز وجل قد توعد من يختلس شيئاً من المال العام بالعذاب الشديد يوم القيامة؛ حيث يقول سبحانه: «يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم» (الشعراء: 88-98).ويقول: نقل هذه المعاني الإسلامية إلى الناس، وغرسها في نفوسهم يحتاج إلى تربية، وهذا واجب الأسرة أولاً، وعلى المؤسسات التعليمية، والمؤسسات التثقيفية واجب كبير في ذلك، وأهم من ذلك القدوة التي يقدمها المسؤول في كل موقع من المواقع التي يتعامل فيها مع المال العام، وهو المجتمع كله بكل ساحاته. وهنا علينا جميعاً أن نتذكر موقف سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع المسلمين الذين أرسلوا إليه بالمال العام الذي لم ير مثيلاً له عقب معركة القادسية، فقال: إن قوماً أدوا هذا لذوو أمانة.. فقال له سيدنا علي كرم الله وجهه: عففت فعفوا، ولو رتعت لرتعوا. فالقدوة التي يقدمها الحكام والمتصرفون في المال العام هي خير قناة تنتقل فيها قيم المحافظة على المال العام، والحرص على استخدامه في ما خصص له.
مشاركة :