تراهن مصر بعروضها القليلة، التي لا تتجاوز أصابع اليد، على تقديم مسرح عصري متفوّق يستطيع مجاراة العروض العالمية الحديثة المشاركة في الدورة السادسة والعشرين لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر والتجريبي مع أربعين دولة عربية وأجنبية. وافتتحت مصر عروضها بمسرحية “بهية” لفرقة “فرسان الشرق للتراث” التابعة لدار الأوبرا، وهي مسرحية ذات لغة مغايرة ومعالجة منفردة بكل المقاييس، وتُحتسب لها الجرأة والمغامرة في خلخلة العناصر المسرحية وتقديم خلطة أو توليفة غير نمطية، وإن كان سعيها إلى تكسير الثوابت قد أخلّ بالبناء كمعنى وقيمة وليس كمجرد هيكل يمكن نفيه أو تهميشه. ويتوقّع مُشاهِد العروض بمصر كل ما هو غير متوقّع في مسرحيات الشباب، المشحونة بالحيوية والإدهاش والرغبة في إثبات الذات على مستوى الأفكار والجماليات وتقنيات الإبهار. وفي عرض “بهية”، على مسرح الجمهورية بالقاهرة، أعاد المتفرّج ضبط بوصلة تعريفاته ومفاهيمه حول فن المسرح الذي يعرفه، حيث اتّسع النسيج المرئي لكل شيء: الباليه، الأوبرا، الفلكلور الشعبي، الموسيقى، الغناء، أكروبات السيرك، وامتزجت أجواء العشق، والدم، والثورة، والسياسة، والنقد الاجتماعي، في منظومة شائكة، نصفها واقع، ونصفها أسطورة. وخالف عرض “بهية”، من تصميم وإخراج كريمة بدير ورؤية فنية محمد فؤاد وأداء مجموعة من الممثلين والراقصين واللاعبين الشباب، أبنية الأطروحات السابقة ذائعة الصيت في المسرح والسينما والتلفزيون والأدب حول سيرة “ياسين وبهية” الشهيرة، التي استلهمها مؤلفون كثيرون، منهم: نجيب سرور ويوسف السباعي، في صياغة ملاحم درامية مكتملة تعاطت مع الأسطورة كقصة حقيقية أحيانا. نسف الموروثبغض النظر عن أصل شخصية “ياسين”، وما إذا كان مُجرما طاردته العدالة في سنوات القرن العشرين الأولى، أو إنسانا شهما شجاعا وهب حياته للتصدي للظلم والباطل، فإن الحصيلة الجمعية للثقافة الشفوية الموروثة، وكذلك الأعمال الفنية والمواويل الفلكلورية التي تعاملت مع حكايته، أنزلته منزلة البطل الشعبي والقائد المخلّص من الظلم والقهر، ونصير الفلاحين الضعفاء على الإقطاعيين المستغلّين، ومُشعل شرارة الثورة في وجه السلطة المستبدة وأعوانها. هذه الصورة النموذجية للبطل الأسطوري هي التي أفرزها الاحتياج المجتمعي المصري على مرّ الزمان، ورسمها بثقة ليس فقط لياسين عاشق بهية وشهيد الحب والتمرّد والكفاح، لكن لأبطال متعدّدين يشبهونه في المخيّلة المتعطّشة للأمجاد، ومنهم أدهم الشرقاوي، وآخرون. واعتمد عرض “بهية” الجديد على الذاكرة المسكونة بالفعل بسيرة ياسين وبهية، وتفاصيلها المعروفة: حكاية العشق بين الشاب النبيل وابنة عمه، سخط الفلاحين الفقراء على الإقطاعيين، وثورتهم بقيادة ياسين على السلطة ورأس المال، ثم انتقام أصحاب المصالح من ياسين وقتله في أجواء غامضة. ويمكن القول إن العرض اكتفى من ذلك الموروث العريض كله بالموّال الشعبي “يا بهية وخبّريني ع اللي قتل ياسين”، فلم يتقصّ خبايا قصة العشق الملتهبة ولا الملابسات التي أدّت إلى مقتل ياسين، باعتبارها معروفة مُسبقا، واكتفى بالإشارة إليها في عبارات موجزة خاطفة. في حين اهتم بالتركيز على ردود فعل بهية لمقتل فتاها، ورغبتها في فضح القتلة من أهل السلطة والمال، الأمر الذي أحال إلى إسقاطات مباشرة على الواقع الراهن، فالسيرة الشعبية أو أسطورة العشق والدم هي تلك “الأم” التي بإمكانها دائما أن تلد أحرارا وثوّارا جُددا في كل زمان ومكان، إزاء أيّ تجبّر وطغيان. ومثلما انفلت العرض من قبضة الدراما الحاكمة المتحكّمة والأحداث المُتنامية عبر سرد وحوار وشخصيات مُسمّاة، فإنّ إشاراته السياسية والاجتماعية وانحيازاته للشعب المغلوب على أمره، وطبقاته المتوسّطة والدنيا على وجه الخصوص، جاءت مجرّد تلميحات عارضة، في حدود المشاهد القصيرة والكلمات القليلة التي جرت على ألسنة ياسين وبهية وبقية الشخصيات، منهم: رجل الدين المسالم حدّ السلبية، الإقطاعي الشره الذي حاول سلب بهية من ياسين بعدما سلبه أرضه، المأمور المتواطئ، العمدة الظالم والعرّافة المتفائلة خيرا رغم كل شيء.. الخ. والأمر الأكثر إدهاشا أن العرض المسرحي الشبابي أراد أن ينفلت من قبضة حكاية “ياسين وبهية” نفسها، الواردة في السيرة الشعبية الدارجة وفي الأعمال الفنية السابقة، ليجعلها مجرد ظل أو هامش أو خلفية للمسرحية الجديدة، التي هي أمر آخر، وحسابات وقياسات أخرى وقماشة منسوجة على غير منوال. إن المغامرة التي خاضها عرض “بهية” المصري في ثوبه الجديد هي ليست فقط مراوغة الذاكرة القديمة بشأن حكاية “ياسين وبهية”، وإنما مراوغة البناء المسرحي ذاته، وتقديم عمل له شروط فنية أخرى، أبرزها خلخلة الأسس والعناصر المسرحية المُستقرّة، ليصير العرض كأنه ترجمة حركية جسدية، موسيقية غنائية، للدراما الحاضرة في الأذهان، والغائبة عن خشبة المسرح لأنها معروفة من قبل. هذا الإفراط في التجرؤ على الثوابت، على ما فيه من روح وثّابة متمرّدة ورغبة في تقديم الجديد المبتكر، أحال العمل إلى سحابة راقصة في الفضاء، حيث لم يعد للبناء وجود على مستوى المعنى والقيمة والتجانس والعلاقات والمسببات، وليس على مستوى الهيكل الضيّق الخانق الذي يضجر منه الفنان الحداثي. وقاد الحماس الشديد للتجديد أيضا إلى خلط الأوراق، والتداخل الأفقي غير التفاعلي بين العديد من الفنون، حيث أراد العرض طرحها كلّها مجتمعة لإثبات قدرات صُنّاعه، وهي بالفعل قدرات استثنائية فذّة، بل خارقة، وتمثلت هذه الفنون والأوراق المُتداخلة في: الرقص الحديث، والشرقي، والفلكلور الشعبي، والأوبرا، والباليه بشكله الغربي، وألعاب السيرك، والأكروبات والاستعراضات الغنائية، بالإضافة إلى التنويعات الإيقاعية والموسيقية المصرية، والعربية، والتركية، والهندية والغربية. وحتى الديكور، اشتمل على المتناقضات: الأثاث الشعبي القروي كالدكة “الأريكة الخشبية”، الزير، الزلعة، القلة، لوازم البيت الريفي، والشاشة السينمائية الكبيرة في الخلفية لعرض الحياة المدنية ومغامرات الفضاء. كما تراوحت الإضاءة بين همس الشموع في لحظات العشق والدفء والرقصات الرومانسية، وكشافات الديسكو المُبهرة في الرقصات الغربية. واتخذ العرض من حكاية ياسين وبهية محورا ثابتا، صامتا، وأراد الدوران حول هذا المحور بلغات تعبيرية مُتعدّدة، ليس منها السرد والحوار ولوازم الدراما، لكنها كلها لغات تعبيرية جسدية ونغمية، ارتكزت على حركات إعجازية مذهلة، وتطّلبت تدريبا خرافيا، وحلّت الرموز والدوال محلّ القنوات التوصيلية للمعاني والأفكار، كرموز الأكفان البيضاء في بعض الاستعراضات (بعد رحيل ياسين)، وملابس الشياطين وأقنعتها السوداء في استعراضات أخرى (قوى الشر المفرّقة بين العاشقين). ويجد الباحث عن جُملة من الرقصات والاستعراضات، الشرقية والغربية، الفلكلورية والأوبرالية والحديثة، والحركات الفردية والجماعية، والتعبيرات الجسدية البهلوانية في أوضاع بالغة التعقيد فائقة المهارة، ضالته في مسرحية “بهية” التي أنطقت سائر أعضاء الجسم الإنساني بلغات حيوية متدفقة، لكن المُفتش عن الترابط والانسجام بين هذه الثيمات، وعلاقتها بحبكة “ياسين وبهية” المركزية، المفترض أنها تتطوّر، سيجد نفسه رهين تساؤلات التجريب الملغزة وطموح الشباب الذي قد يؤدي إلى متاهة. الرقص في الفضاء
مشاركة :