منذ بدء الخليقة وكان صراع الإنسان مع المجهول ومازال مستمرًا حتى راهننا وإن كان بطرق شتى.. لأنه في البداية كانت "الكلمة" التي رصفت طريق المعرفة والوعي والإدراك وبالنهاية معرفة الذات.. ومن دون "الكلمة" لما كان ثمة إنسان واعٍ لحقيقته المجتمعية التي هي بالأساس أصل وجود الإنسان والهدف بنفس الوقت.. السؤال والشك كانتا الشغل الشاغل للإنسان لكل ما يراه ويدور من حوله من حوادث طبيعية وأخرى عائدة له وفق معرفته للحياة بشكلها البدائي.لذلك تم اعتبار أن الفلسفة هي أمُ العلوم والتي منها اشتقت العلوم الأخرى بكل تفاصيلها، والتي كانت أساس العلوم الاجتماعية التي بحثت عن معنى الحياة وأسباب وجودها وماهيتها.. وبنفس الوقت كان الصراع والذي ما زال مستمرًا حتى الوقت الحاضر بين من أراد أن يعيش كما هي الحياة وبين من اراد التغيير نحو الأفضل.. صراع تجلى في نهاية المطاف وفق مصطلحاتنا الآن وحسب الجدلية التاريخية لماركس بين الميتافزيقيين والماورائيين وبين الماديين والذين لا يؤمنون إلا بالتجربة على أنها البرهان لحيواتنا.صراع كانت أساس ظهور وتشكل الثنائيات القاتلة والتي دفع ضريبتها الإنسان منذ القدم وما زال وذلك بأساليب شتى.. ثنائيات الجحيم ما بين المادي والروحي، المؤمن والكافر، الذكر والأنثى، الجنة وجهنم، الخير والشر، النور والظلام، الفلاح والإقطاعي، العامل والرأسمالي، الشعب والدولة، السنّي والشيعي، الكاثوليكي والأرثذوكسي، وصولًا إلى الكردي والأمازيغي والعربي، الكردي والتركي ...الخ، من هويات كانت وما زالت قاتلة نلهث وراءها وكأنها جزء من الحقيقة.القارئ للتاريخ ولو بشكله المبسط يُدرك أن هذه الهويات القاتلة ظهرت نتيجة ابتعاد الانسان عن البحث في الحقيقة المجتمعية التي بدأ بها في الأساس، وكذلك حينما أسند ظهره للعلوم والتعريفات الجاهزة للمصطلحات وابتعد عن البحث في حقيقة ما يتعلمه.. حتى أيقن أن كل ما يأتيه من رجل الدين ورجل العلم يمثل الحقيقة بعينها، وكذلك كل ما يقوله الحاكم والرئيس والأمير والملك هو الحقيقة فقط ولا غير. وتناسينا أن هؤلاء ما هم إلا بشر يخطئون ويصيبون ويترددون ويشككون وأنَّ ليس كُل ما يقولونه منزل من السماء وأنه علينا قبوله وترديده وكأن كلامه موازية للأحاديث النبوية.نعمة التفكير والشك والتساؤل لا يملكها إلا الإنسان عن باقي الحيوات المتواجدة على الأرض. وحينما ابتعدنا أو أبعدونا عن الشك والسؤال دخلنا أو أدخلونا في دائرة الجهل وترديد ما يُقال لنا فقط، حتى أصبحنا مغتربين عن ذاتنا وجاهلين لها والسير في درب الحياة بتكرار وتكرار ما كان يعبده أو يعيشه أجدادنا وآباءنا (عاش الملك ومات الملك).هو الجهل لا غيره الذي يصنع العبيد وبنفس الوقت الديكتاتور، ولا يمكن لديكتاتور أن يظهر رأسه في مجتمع يسوده العلم والفلسفة على يد عالم الاجتماع الذي من أولى واجباته هي تعريف الحياة وطرح أسئلة من قبيل: كيف نعيش؟ ما العمل؟ ومن أين نبدأ؟ أسئلة طرحها البعض من الشخصيات التي كانت لها دور في الحياة. إذ، تساءل لينين في ما العمل؟ فكان رده: التنظيم، التنظيم، التنظيم. وقبله تساءل نابليون أيضًا كيف نعيش؟ فكان رده: المال، المال، المال.. والآن نفس التساؤل يطرحه أوجلان من أين البدء؟ فكان رده: التدريب، التدريب، التدريب، والذي يعني فيه القراءة وتدريب النفس وبناء الشخصية وفقها.حينما نفتقد أحقية السؤال والرد على هذه التساؤلات حينها علينا أن نُدرك أننا أموات نسير على أقدامنا.. وعلينا الاعتراف أيضًا أنَّ ثمة أطرافاً تفرض الجهل على المجتمعات وتُغرقها في أمور ثانوية لا علاقة لها بأساسيات الحياة، وتهدف من وراء ذلك ارباك الشعوب وجعلها لا تُدرك الصح من الخطأ وحتى لا تعي ماذا تريد من الحياة ولماذا نحن على قيد الحياة أصلًا؟ وهدف تلك الأطراف هي نشر الجهل على أنه حقيقة الحياة وكل من تسول له نفسه الخروج من هذه الدائرة تكون التهمة جاهزة طبعًا. وهي معروفة للجميع.هكذا يمكننا أن نفهم كيف أن الديكتاتوريين قد ظهروا عبر التاريخ وكيف أنهم مسخوا المجتمعات وأصابوها بالترهل والتنميل وجعلوا منه مجتمعًا مخصيًا لا ينتج حتى قوت يومه.. هذا ما نُدركه من نمرود وفرعون وصارغون وقسطنطين وموسوليني وهتلر وأردوغان العصر، وغيرهم الكثير ممن لا يمكن حصرهم.وبمناسبة أردوغان الذي أصبح ديكتاتورا بكل معنى الكلمة، بات الآن أصدقاءه المقربين منه يتساقطون الواحد تلو الآخر، وآخرهم أحمد داوود أوغلو عرًاب والفيلسوف الذي صنع أردوغان كان بوقه الذي يجمل صورته أينما حل، لكن هي الدنيا أو التاريخ الذي لا نعرفه ولا نعيه في وقته إلا بعد فوات الأوان.. نرى الان داوود أوغلو الأخ الوفي لاردوغان قد انقلب عليه وأصبح من ألد الأعداء، حينما انتفت واختفت المصالح بينهما. داوود أوغلو الذي كان كعبد عند سيده أردوغان الذي رماه بعد انتهاء صلاحيته، نراه يتحول ويبتعد عن سيده ليعلن عن نفسه البطل الذي سيفضح أردوغان وسياساته حيال شعبه أو في سوريا.. ربما يصفق لهو البعض نكاية بأردوغان، لكن تبقى للحقيقة دروبها التي لا يعبرها إلا الأحرار الذي لن يكون داوود أوغلو منهم طبعًا. لأن التاريخ يعلمنا بأن العبيد حينما ينتفضون باسم الحرية لن يتحولوا إلا إلى دكتاتوريين أشباه أسيادهم.. لأن انتفاضتهم هذه هي ردة فعل تجاه السيد وليست ثورة ضد الديكتاتوريين.. وفي أحسن الأحوال سيتحول داوود أوغلو لقشة التي ستقصم ظهر أردوغان وليس أكثر، وبعدها سيكون للرياح كلمتها أين سترمي هذه القشة؟أولى الخطوات التي ينبغي البدء بها للخروج من هذه الحالة هي القضاء على الجهل بكل أنواعه وأدواته والذي يبدأ بطرح التساؤلات عن معنى الحياة وهدفها وأين موقعنا منها وما هو المطلوب مننا؟ وغيرها الكثير من الأسئلة التي ما زالت تبحث عن أجوبة حتى راهننا.
مشاركة :