كمال الجزولي في تصريحات مثيرة تداولتها الصحف الورقية والإلكترونية السودانية، مطلع سبتمبر الجاري، شدد القيادي السابق في حزب المؤتمر الوطني؛ الواجهة السياسية للحركة «الإسلاموية» التي حكمت البلاد طوال ثلاثين سنة الماضية، على «عدم جواز مكافحة الفقر»، قائلاً: «من يحارب الفقر يحارب الله سبحانه وتعالى». وفي باب الضحك على الذقون، وتبرير فشل النظام المدحور، أشار القيادي «الإسلاموي» إلى «أن الخليفة عمر بن الخطاب كان يتفقد 30 بيتاً فقط، وليس 8 ملايين بيت كما في السودان»هذا ضرب صارخ من المتاجرة المفضوحة بالدين، والتي تفتقر إلى محض مُزعة لحم تغطي ولو ملليمتر مربع من وجهها، مقارنة بالضروب الأخرى التي شاعت في هذه البلاد من فوق كل المنابر، وعبر جميع مؤسسات الصحافة والإعلام التابعة لنظام الإسلام السياسي، منذ استيلائه على السلطة في انقلاب ثلاثين يونيو عام 1989، حيث درجت أغلب تلك الضروب على الاجتهاد في تغطية عوراتها بمختلف التلاوين والحيل التي تتمسح بأطراف الفقه، فلم يحدث أن بلغ أحدها مثل هذا السفور في الكذب على الله كالذي بلغته تصريحات هذا القيادي «الإسلاموي». حجر الزاوية في هذا «الفقه السياسي» المنتحل «دينياً»، هو «عدم جواز مكافحة الفقر»، حيث إن «من يحارب الفقر يحارب الله سبحانه وتعالى»؛ لكون الفقر صناعة الله، لا الحكومة، وتنبع خطورة مثل هذه الأقوال من ترك شؤون الدين والفتيا نهباً لمن يدعون أنهم «رجال الدين» الذين خصهم الله وحدهم بمعرفة الفقه الصحيح، على الرغم من التعميم الذي ساقه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «من أراد الله به خيراً فقهه في الدين». وبالتالي ليس صحيحاً أن المناهج التي يعول عليها في التربية والتعليم والصحافة والإعلام، لأجل فضح وتجاوز هذه «التجارة» الكاسدة، هي ما يستفاد من دارج الإطلاقات المجانية للتكايا الفكرية، فهي أبعد ما تكون عن انضباط مفاهيم العلوم الدينية الأصيلة، أو دلالات الثقافة القدسية الجليلة. فبعكس ما ذهب إليه المسؤول السابق في النظام «الإسلاموي» البائد، فإن هذه المفاهيم والدلالات تنصب بكلياتها، على اعتبار الفقر أحد مسببات أخطر الأمراض التي تواجه المجتمعات الإسلامية، وبالتالي، فإن محاربته واجبة دينياً ودنيوياً، حيث تشير الإحصاءات المعتمدة إلى أن 45 دولة إسلامية هي، الآن، ضمن الدول الفقيرة، وأن 90% من المسلمين حول العالم يعيشون حالياً تحت خط الفقر، وأن هذا الواقع المزري هو المسؤول عن أكثر الظواهر الوخيمة، كانتشار الجريمة وتفاقم الفساد، والتحلل الأخلاقي، وتردي السلوك العام. فلئن كان علم الاجتماع وعلم النفس وعلم الجريمة وعلم الاقتصاد وعلم السياسة، وما إليها من علوم دنيوية، تقرن بين هذه الظواهر وبين مسببات الفقر، بمعناه المادي والروحي الشامل، وتحيلها إلى شر عام، يفكك أمن المجتمع ويُهدد سلامته، ويزعزع استقراره، فالتعاليم الإسلامية توجز كل ذلك الشر بإحالته إلى مسبب عام هو الشيطان في قوله تعالى: «الشيطان يعدكم الفقر» (سورة البقرة). صحيح أنه ما من شيء يقع دون إرادة الله، لكن إرادة الله جعلت الفقر كفراً، وأوجبت محاربته، على العكس مما ذهب إليه القيادي «الإسلاموي». قال النبي صلى الله عليه وسلم، الذي لم يكن ليتكلم إلا بما يوحى إليه: «كاد الفقر يكون كفراً» (عن أنس رضي الله عنه). وهذا ما فهمه الصحابة الأجلاء الذين شهدوا القرآن وهو يتنزل على النبي صلى الله عليه وسلم طازجاً، فقال علي كرّم الله وجهه في (نهج البلاغة): «لو كان الفقر رجلاً لقتلته». وقال أبو ذرٍ، ضمن أشهر أقواله: «أعجب للرجل لا يجد قوت يومه، ولا يخرج على الناس شاهراً سيفه». ولو أن الله سبحانه وتعالى، كان من جهة قد اعتبر محاربة الفقر كفراً، ونهى العباد عنها، لما كان من جهة أخرى قد اعتبر الفقر نفسه مشكلة، وحض نفس هؤلاء العباد على اتباع نظام اقتصادي متكامل لحلها، حيث أمرهم مثلاً بممارسة النشاط الاقتصادي الحلال في جمع المال، ناهياً عن كنزه، حاثاً على الإنفاق على الفقراء والمساكين، ولما جعل الزكاة بمثابة حق للفقراء في مال الأغنياء «والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم» (المعارج، 24 25)، ولما شرع الكفارات والنذور لمساعدة الفقراء، كما حث على تفريج كرب المحتاجين، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من فرّج عن مسلم كربة في الدنيا، فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة» (أخرجه مسلم). وبقدر ما أعلى الله من قيمة الإنفاق والتصدق وتفريج كرب الآخرين، بما وعد بخير الجزاء عنه، بقدر ما حط من عاقبة الربا الذي هو من الأثرة والأنانية وشح النفس: «يمحق الله الربا ويربي الصدقات» (البقرة، 276). وعموماً جعل الله الفقر نقمة، وحض على التعاون في معالجتها بطرق التكافل الاجتماعي. kgizouli@gmail.com
مشاركة :