اليوم، ونحن نشهد ترجّل الفارس من منصبه، تجول ذاكرتنا في رحاب الماضي، وتقفز أمامنا صور البدايات: شاب في مقتبل العمر، يحمل على عاتقه مسؤولية ضخمة، ويواجه العالم باسم بلاده، شاب في الواجهة تزداد مهامه صعوبة كلّما ازدادت مكانة بلاده عزّة ورفعة وأهميّة. تولّى سعود الفيصل منصب وزير الخارجية وهو في الخامسة والثلاثين من عمره؛ ليخلف والده العظيم، ويسير على خطاه. وربما نلحظ توجّه القيادة السعودية الحالية إلى تطعيم الحكومة الجديدة بالشباب، لكن الحقيقة أن لا شيء هنا جديد، فقد كانت بدايات كل مسؤولي الدولة من الأمراء مُبكِّرة، وقد انضموا إلى المناصب القيادية في الدولة وهم في ريعان الشباب، ثم اكتسبوا خبرات وتجارب غنية مرَّروها لأبنائهم، وأحفادهم الذين نراهم أمامنا اليوم، أشبالاً من أسود. تولّى سعود الفيصل منصبه في وقت حرج، فالشعب كان مجروحًا وحزينًا لرحيل والده العظيم، وحين ظهر الابن الذي حمل ملامحه وقوة شخصيته، والكثير من الكاريزما التي خصّه الله بها، احتل في قلوبهم مكانة خاصة جدًّا، وقد عزّز هو بخلقه النبيل، وسمو نفسه تلك المكانة التلقائية، وقوّاها بإخلاصه وتفانيه في أداء عمله على مدى أربعين عامًا. بذل أمير الدبلوماسية السعودية جهودًا جبارة في أكثر المناصب حساسية، وأشدها أهمية حتى أصبحت الخارجية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بوزيرها القائم على شؤونها، فمن الصعب جدًّا تخيل هذه الوزارة بلا سعود الفيصل. هذا الاندماج بين المنصب والأمير لم يحدث لمجرد بقائه وزيرًا لمدة طويلة، بل لأنه تجانس مع عمله إلى درجة أنه تنكّر لذاته التي ذابت في العمل، فأصبح هو والمنصب صنوانًا. جمع هذا السياسي المحنّك بين الذكاء والمعرفة والخبرة والنبل وحسن الخلق، وتلك الهيبة التي تبثها نظرة واحدة: يدخل إلى المكان فتشيع هيبته في زواياه، يقول فيصغي له الجميع، يرفع عينيه فيصمتون تأهبًا لما سيقوله، يقف فيتطلع الجميع بتوجّس. وعلى كل ذلك لم يتوقف الأمير عن توسيع ثقافته وإلمامه المعرفي، وقراءاته المتعددة، وإجادته للغات، كل تلك الاستزادة كانت تفيد عمله وتزيد من إتقانه، ولم يكن ليتوانى عن تحسين أدائه بكل الأشكال. هذا هو سعود ابن الفيصل، وزير لم يعرف الراحة وهو يؤدّي عملاً مرهقًا لا يتوقف، فمن قضية لقضية، ومن اجتماع لاجتماع، ومن لقاءات لمباحثات، ومن مؤتمرات لمناورات عقلية، ومن تصريحات لخطب ومهاتفات ومراسلات. أدق التفاصيل تكون محسوبة دائمًا بحرص شديد، والثانية من الدقيقة تفصل بين النجاح والإخفاق. أفنى الأمير الذي كان شابًّا عمره في مضمار صعب للغاية، كان يخوض في غمار خطيرة، ويدافع عن وطنه، ويقتنص له الفوز في المحافل العالمية بكل جسارة وقوة، فيتساوى في نضاله مع أشجع الجنود وأكثرهم إقدامًا وتضحية. أيُّها الأمير الفاضل المناضل، قدّمت لوطنك الكثير، فأصبحت رمزًا وطنيًّا سيسكن قلب التاريخ، كما تسكن أنت في قلوب الناس الذين يدعون لك بالشفاء والعافية، وهم يقفون لك اليوم إجلالاً ومحبة.
مشاركة :