سؤال وجهه أصدقاء الناقد السينمائي سليمان الحقيوي له باعتباره مهتما بالسينما وتقنياتها ونقدها؛ أيّ فيلم يختارونه ليتمتعوا بمشاهدته الليلة؟ السؤال وإجابة الناقد عنه بعد تفكير طويل نقلاه إلى ضرورات تحليل خطاب كل فيلم سينمائي يعرض في صالات السينما المتوفرة، ويكون جديرا بالمشاهدة. ولا يتم هذا الاختيار إلا من خلال تتبع القضايا التي طرحتها قصة كل فيلم، وتأويلها وفق الواقع الذي نعيشه، والتقنيات المستخدمة فيه، للخروج بنتيجة أن ذاك هو الفيلم المناسب لكي يشاهده أولئك الأصدقاء. مئة عام من العزلة نقلنا الكاتب سليمان الحقيوي في رحلة ممتعة من خلال كتابه الجديد “الخطاب السينمائي ــ قضايا في التلقي والتأويل” الذي صدر مؤخرا بالمغرب عن قضايا السينما الأجنبية والعربية الحديثة ومدارسها وتقنياتها وأشهر أفلامها. مهد الكاتب لفصول كتابه بسرد لتاريخ السينما مذكرا بذلك الضوء المنبعث من آلة العرض، وانعكاس حركة الممثلين والموجودات على شاشة بيضاء كبيرة، بدت للمشاهدين في العرض الأول لفيلم سينمائي كالسحر، مما جعل الحكومات تنتبه لخطورة الاختراع الجديد، وتأثيره في المشاهدين لما تنتجه السينما من أفلام بدأت صامتة ثم سرعان ما صارت ناطقة. فألهمت الكثيرين ممن يهتمون بالرأي العام وتوجيهه، أنهم وضعوا أيديهم على العفريت الذي انطلق من قمقمه، وصار بإمكانهم توظيفه لخدمة أهدافهم. حقلا الرواية والسينما يعتمدان على تقنيات مختلفة، فالتخييل فيهما ينسج من خلال ما يُسمى "طبيعة العلامة السردية" عرض الفيلم الأول “رحلة إلى القمر” لمخرجه الفرنسي جورج ميليه سنة 1906 وقد حملت هذه المغامرة العديد من المستجدات آنذاك، أولها أنه أول فيلم خيال علمي، وثانيها اعتماده على المونتاج، وكان ميليه هو أول من عمل في هذا الجانب وتقنيات أخرى. واعتمد لأول مرة في السينما على رواية منشورة بعنوان “من الأرض للقمر” للروائي جون فيرن، وبذلك أدخل للفيلم لأول مرة “القصة”. هذا الربط بين الكتابة الأدبية والسيناريو لم يعد موجودا، فالسيناريو ليس عملا أدبيا اليوم، ولا يمت للأدب بصلة، ولا يمكن أن يكون من الأنواع الأدبية. فالسيناريو كتابة لأوضاع سنصورها لاحقا، وربما هذا هو السبب الذي جعل غابرييل غارسيا ماركيز يتخذ موقفا من تحويل روايته الشهيرة “مئة عام من العزلة” إلى فيلم، فهو برر هذا الموقف “باحترامه لمخيلة القارئ، وحقه السامي في تخيّل وجه الخالة أورسولا أو وجه الكولونيل مثلما يشتهي”. ويمكن القول إن حقلي الرواية والسينما يعتمدان على تقنيات مختلفة، فالتخييل فيهما ينسج من خلال ما يُسمى “طبيعة العلامة السردية” فرواية ما، لا يمكن نعتها بأنها جديدة إلا بالقياس إلى روايات أخرى. والأمر نفسه يحدث بالنسبة إلى الفيلم، فالوهم في الرواية وهم مجازي، بينما الوهم في الفيلم هو وهم واقعي، كما ينعته جان ريكاردو في كتابه “الاتصال والانفصال ما بين النص الروائي والسينمائي”، وإن عقد المقارنات بين الرواية المكتوبة والفيلم المقتبس عنها يقود دائما إلى الخيبة وفشل المقارنة، لأن المجالين مختلفان الأول اعتمد مخيلة القارىء والثاني على ما تنقله عين المشاهد وسمعه، وما يشاهده بشكله الواقعي، الذي لا غموض فيه، لجماليات اللغة أو وصفها للأماكن والأحداث. التلقي السينمائي بدأت حكاية التلقي في الفيلم السينمائي وتأثيره في المشاهد منذ أول هروب حدث من قبل الجمهور هلعا، قافزين من كراسيهم عند رؤيتهم للقطار القادم صوبهم مندفعا من الشاشة البيضاء، خلال عرض أول فيلم أنتجه الأخوان لومير عن القطار القادم إلى محطة لاسوت. منظر القطار المتحرك بسرعة، وهو يتجه صوب الجمهور، والبخار ينفث من كل مفاصله، وأذرعته الحديدية تتحرك بانسيابيّة وخفة كان إيذانا بميلاد ما سمي بالتلقي السينمائي وتأثر الجمهور به. ويتناول الكتاب النقد السينمائي ودور الناقد، فاعتبر أن له القبس الأعلى في توجيه بوصلة الاهتمام إلى فيلم ما يعرض في إحدى الصالات، ومن الملاحظات أن الناقد السينمائي العربي لا يؤبه به، ولا يهتم الجمهور بما يسجله من آراء حول الأفلام. ولا يوازي اهتمام الجمهور بالنقد السينمائي كما الإبداع، كالقصة والرواية والشعر والنقد الأدبي، الذي يُكتب ويُنشر. وذكر المؤلف ما قاله الناقد نورالدين أفاية حول النقد السينمائي من أن “النقد السينمائي يتعرض دوما إلى النقد والتعريض به والتشكيك وحتى الطعن. ووجهت إليه تهم عدم الاستقلالية والاستكانة والاقتصارعلى أدوار التوسط والتصفيق لأعمال الكتاب والفنانين”. وكثير من نقاد السينما العرب أهملوا جوانب كثيرة في النقد السينمائي الجاد، التي تبرز مواطن القوَّة والضعف فيه، من خلال تحليل لغته البصرية، وعناصر بنائه من صوت وصورة وأداء ومختلف الجوانب التقنية الأخرى. وبهذا المعنى تصبح للنقد مهمة كبرى ربما هي على القيمة نفسها لصناعة فيلم جيد أو متجاوز. وأضاف الكتاب إلى هذا تأكيد الناقد محمد شويكة على ضرورة “تحليل الفيلم ودراسته واختباره والحكم عليه إعجابا أو رفضا”. وأضاف شويكة “أثناء الكتابة عن الفيلم، نتقيد بقضايا معينة منها الفني والتقني والتأويلي، والتركيز على ناحيتين: الأولى تتعلق بفنية الفيلم وسيمائيته، والتي تأتي عبر فحص اللغة السينمائية التي وظفها مخرج الشريط السينمائي، والثانية تتعلق بدراسة الجوانب التصورية للعمل السينمائي”. وهناك رأي مخالف لما ذكره الناقدان فذكّر المؤلف بمطالبة الناقد الفرنسي ميشيل فرودون بدفن وظيفة الناقد السينمائي، معتبرا أن “الناقد لم يعد ينفع في شيء، وأن زمنه انتهى”. وربما من باب اللطف بهذا النوع من النقد، أضاف المؤلف، أن المطالبة بدفن وظيفة النقد السينمائي تبدو على العكس من ذلك، كعرض ينم عن وجود مستمر لهذا النوع من النقد الفني. وذكر الكاتب قضايا التلقي في الفن السابع، وإشكالياته الكثيرة، ابتداء من المدخل إلى الصورة السينمائية والتعريف بماهية الصورة، وعلاقتها بالصورة السينمائية، والمقارنة بين الصورة الثابتة والمتحركة، وأحوال عصر الصورة السينمائية ومعايير تلقيها من قبل الجمهور. وليس خافيا على أحد دور اللغة، والتعبير فيها عن قصة الفيلم، وذلك من خلال وضع النص المترجم عند عرض الفيلم في بلد آخر له هوية مختلفة، فالترجمة لا تفي بنقل هوية الفيلم للمتلقي. كما أن دبلجة الأفلام ستلغي الصدق الفني، الذي عادة لا يتناغم معه المشاهد، ويجعل في بعض الأحيان بسبب اختلاف الهويات، الدبلجة موضعا للسخرية، بدلا من أن تساهم في نقل التأثير النفسي والذوقي للمشاهد بالشكل الذي أراده المخرج والممثلون. وتناول المؤلف موضوعا مهما حول اضطهاد الصورة وتأويلها، كتحريم الصورة في الأديان التوحيدية الثلاثة، مما جعل الصورة، وحتى تلك التي يراها المتلقون في وسائل التواصل الحديثة محطَّ خوف داخلي لكل واحد منهم من الوقوع في الحرام بسبب رؤيتها أو إرسالها للغير. وكذلك التابوات الثلاثة في السينما العربية؛ الجنس والدين والسياسة، إلا في ما ندر من المسموح من الأفلام التي تناولت هذه التابوات أو أحدها في بعض الفترات في هذا البلد العربي أو ذاك. وتناول الكاتب الربيع العربي وأهم الأفلام التي أخرجت في ذلك الربيع، واعتبر أن أهميتها تكمن في كونها أفلاما توثيقية لحوادث مهمة مرت بها بعض الأقطار العربية.
مشاركة :