عدوى مظلومية الإسلاميين تكبل اليسار العربي المغترب عن شعبه

  • 9/23/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

يعاني اليسار العربي من أزمات عدة كبّلته وجعلته مغتربا عن شعبه، حيث لم يقدر هذا الطرح الفكري في بعض دول المشرق من فرض نفسه كبديل يكون قادرا على إطفاء نار الفتنة الطائفية، كما لم يستطع في دول المغرب التي عرفت تغيّرات كبرى أن يخترق المجتمع، فلا يختلف حمدين صباحي في مصر عن حمة الهمامي في تونس، حيث يوجد إجماع من أقرب المقربين منهم على أنهم أضاعوا البوصلة، لأنهم يشتركون في نفس العلة المزمنة، التي هي سليلة عدوى المظلومية الإخوانية دون المضي قدما في القيام بمراجعات فكرية تصنع يسارا جديدا منفتحا على العالم، ومستقطبا لمختلف شرائح المجتمع. تونس – تتواصل الخيبات التي تنذر بانقراض أدبيات أحزاب يسارية عدة في العالم العربي ولعل أبرز ما يلخّص ذلك ما منيت به رموز الطرح الفكري الماركسي في تونس من هزيمة في انتخابات الرئاسة. وعجز ثلاثة مرشحين للانتخابات الرئاسية من المدرسة اليسارية في تونس وهم: حمة الهمامي زعيم ائتلاف الجبهة الشعبية ومنجي الرحوي من حزب الجبهة الشعبية، وعبيد البريكي رئيس حزب تونس إلى الأمام، ليس فقط في المرور إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية، بل حتى في حصدهم مجمعين نسبة تفوق 2 بالمئة من أصوات الناخبين في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية. أزمة إبداع سياسي وتدفع هذه الهزيمة الكبرى للأحزاب اليسارية في تونس، إلى النقاش مجددا بصفة أعمق في مردّ الخيبات التي تلاحق اليسار العربي برمته، حيث طرأت عوامل جديدة بخلاف الأمراض المزمنة التي يعاني منها اليساريين العرب وجعلتهم يتقدمون خطوة إلى الأمام، لكنهم يتأخرون خطوتين إلى الوراء. تكمن السمة الجديدة التي ميّزت كل خطابات زعماء اليسار العربي، في انتهاجهم نفس شعارات الإسلاميين القائمة أساسا على خطاب البكائيات لاستمالة الناخب واستقطاب القواعد. وهذه الخطوة الأخيرة، توصف بأنها دليل هام على فشل هذا المكون السياسي في ابتكار لغة جديدة تتحدث لغة المجتمع وتبحث في عمق قضاياه الكبرى والمفصلية. وترجم حمدين صباحي رئيس “تيار الكرامة” اليساري في مصر، هذا الخطاب الغارق في المظلومية والذي يحمّل فيه المسؤولية عن الفشل إلى الآخر، وذلك بإصدار حزبه بيانا لوّح فيه بتجميد نشاطه السياسي احتجاجا على المساس بالحريات في البلاد. الشعوب العربية المحاصرة بأزمات اقتصادية واجتماعية لم تعد تستهويها تلك الخطابات الأيديولوجية القائمة أساسا على بكائيات النضال ومعاناة السجون والمنافي ولا يجادل المتابعون لمثل هذا الخطاب الذي يعيد إحياءه حمدين صباحي، مسألة الحريات في مصر فحسب، بل إنهم يذهبون عكسه تماما عبر تناول عمق أزمة اليسار المصري والعربي بأسره، مبينين أن الطرح اليساري أوغل في تغطية فشله باستلهام شعارات المظلومية. وتختلف التجربة اليسارية المصرية عن التجربة التونسية، فعلى الرغم من أن رواد اليسار في تونس حاولوا في بدايات ثورة يناير 2011 تجنب الوقوع في فخ المظلومية بتنازل جلهم عن تعويضات مالية رصدت لمن ناضل زمن نظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، إلا أنهم وقعوا في السنوات الأخيرة في نفس الفخ بتحميلهم عند كل خسارة تلحق بهم الأحزاب الأخرى أو ما يسمى بـ”السيستام” مسؤولية فشلهم. ورغم أن أحزاب الدولة العميقة في تونس، منيت في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية بخسارة مدوية، فإن اليسار وجد وفق العديد من المراقبين مبررات وبكائيات أخرى مفادها أن الفائزين في الدور الأول من الانتخابات (قيس سعيد ونبيل القروي) أحدهما مدعوم من السلفيين، فيما الثاني وجد في “الشعبوية” طريقا لاستمالة الناخبين. وتوجّه الكثير من الانتقادات إلى أحزاب اليسار التونسي بأنها ظلت حبيسة الأيديولوجيا بل ومغتربة عن شعبها رغم أن أول الدروس التي يتم تلقينها لأي يساري مهما كانت توجهاته “لينينيا” كان أو “ستالينيا” أو “ماويا” أو “تروتسكيا” هي أن يكون مدافعا عن فكرة اقتصادية ماركسية صرفة مفادها “لا لاغتراب العامل في مصنعه”. ويظهر من خلال تحليل خطابات الأحزاب اليسارية في تونس ومصر والجزائر، أن هذه الأخيرة لم تتخلص بعدُ من معضلة “العمل السري” الذي رافقها طيلة عقود زمن الأنظمة الاستبدادية. ويرى الكثير من المحلّلين أن ازدهار الحريات ولو بصفة نسبية في هذه البلدان ساهم في تعرية عجز الأحزاب اليسارية عن تقديم طروحات جديدة تكون متسقة مع الواقع ومنفتحة على العالم. ويُجمع أكثر الدارسين للفكر اليساري في المنطقة العربية على أن المواطن العربي المحاصر بأزمات اقتصادية واجتماعية كبرى لم تعد تستهويه تلك الخطابات الأيديولوجية القائمة أساسا على بكائيات النضال ومعاناة السجون والمنافي التي بات يتماهى فيها اليسار مع جماعة الإخوان المسلمين. وتشترك فصائل اليسار في بلدان المشرق مع يسار المغرب، تقريبا في نفس المشاكل والأزمات، لكن الرهانات والظروف تختلف بصفة كلية تقريبا، حيث طرحت منذ عقود على فصائل اليسار في المشرق تحديات مصيرية عنوانها محاربة الفتن الطائفية في لبنان أو خلق توازن سياسي يجنب المنطقة المزيد من الاصطفاف وراء إيران أو كذلك محاولة إيجاد بديل يساري لحركة حماس في فلسطين، لكن كل هذه المحاولات فشلت. التماهي في الأمراض دفع فشل أحزاب اليسار التقليدية بلبنان في مقارعة النظام الطائفي أو المساهمة في تشكيل خارطة جديدة تُحصر فيها أدوار حزب الله، إلى ميلاد تشكيلات يسارية مستقلة متمرّدة على “اليسار الرسمي”، على غرار “اتحاد الشباب الديمقراطي” و”المنتدى الاشتراكي” و”طلاب شيوعيون”. وشاركت هذه التشكيلات اللبنانية في الاحتجاجات ضد الطائفية، لكنها فشلت في إحداث تغيير لأنها اصطدمت بما تركته الأحزاب اليسارية من انطباعات لدى المواطن اللبناني الذي خبر كل نتائج تجارب اليسار في بلاده منذ عقود. وفي سوريا، لا يمكن خاصة بعد عام 2011، الحديث عن وجود أي طرح يساري جاد، لكن يمكن طرح الملف من زاوية أن الفكر العروبي يعدّ من أهم شروخ اليسار العربي، وهنا يتراءى أن النظام السوري سقط علاوة على وقوعه في حرب أججتها سياساته القمعية في تناقض فكري تام، وهو ما يدفع إلى التساؤل عن جدوى الالتحاف بشعارات القومية العربية على غرار ما يفعله “الحزب العربي الاشتراكي السوري” في الوقت الذي يرتبط فيه ارتباط وثيقا بإيران المعادية للعرب. وتحوّل اليسار الفلسطيني إلى موضع تساؤل ملحّ من قبل اليساريين أنفسهم قبل المحللين والمراقبين، وتتلخص أهم الاستفسارات حول رؤيته لمسألة التحرر الوطني الفلسطيني. ورغم أنه لا يمكن وضع الحالة اليسارية الفلسطينية في نفس خانة مختلف التشكيلات اليسارية العربية لأن ولادتها منذ البداية لم تكن في منطلقاتها قائمة على جدل فكري داخلي، بل كانت أهدافها هي مواجهة إسرائيل، فإن ما تتهم به التشكيلات اليسارية الفلسطينية هو الإمعان في رفع الشعارات دون النجاح في صدّ مكونات الإسلام السياسي وتحديدا حركة حماس. وتنتقد الأحزاب اليسارية الفلسطينية وعلى رأسها الجبهتان الشعبية والديمقراطية بأنها لم تلتصق بخطابها الاقتصادي، حيث يرى المؤرخون أن اليسار الفلسطيني لم يطرق طيلة تاريخه أبواب الإصلاح الاقتصادي في فلسطين.

مشاركة :