أكد الدكتور شوقي علام مفتي الجمهورية، أن المؤسسات الإفتائية والمجامع الفقهية والشرعية تمارس دورًا مهمًّا في تأليف قلوب بني البشر وقيادة العمل الحواري بين الأديان؛ ولا شك في أن العلماء هم قادة الحوار، وبهم ينجح ويحافظ على مساره الصحيح ويمارَس بالشكل الذي يحقق النتائج المرجوة منه؛ ومن أهمها تحقيق التعايش الحضاري ونزع فتيل الفكر التكفيري وتحقيق السلم في حياة الشعوب كلها.وأضاف أن النموذج المعرفي الإسلامي يدعو إلى عدم الالتفات إلى وجود فروقات لغوية أو عرقية أو طبقية، وإنما يتفاضل الخلق بأعمالهم التي يكونون قريبين فيها من الخالق جل وعلا؛ قال تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير}.جاء ذلك في كلمته التي ألقاها خلال مشاركته بأعمال المؤتمر العلمي الدولي السابع، عن "الإسلام في زمن العولمة... التراث الإسلامي وحوار الثقافات"، الذي بدأت فعالياته الأحد الماضي في العاصمة الروسية "موسكو"، وتستمر حتى اليوم الثلاثاء.وأكد مفتي الجمهورية، أن المسلمين استطاعوا عبر كل المراحل التاريخية تفعيل هذه الرؤية والرسالة بمشاركة الحضارات والأمم بما تحويه من ثقافات متنوِّعة وأديان متعدِّدة وأعراف مختلفة، مشاركة تأصلت وتأكدت في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ بَعَثَنِي رَحْمَةً لِلنَّاسِ كَافَّةً».وأوضح أن التأسيس للعلاقة والشراكة والتواصل يقتضي أولًا وقبل كل شيء قيام الحوار البنَّاء بين الأديان والثقافات، ففي كل ثقافة من الثقافات وحضارة من الحضارات تم تناول هذا الحوار طبقًا للمنهج الذي تصطبغ به، وكانت الحضارة الإسلامية أدق الحضارات وأوعبها لمسوغات بناء هذا الحوار، فوضع الإسلام الأسس والقواعد والأحكام الضابطة للتعامل مع الأديان والثقافات الأخرى، وكانت نقطة انطلاقة دائمًا المبادئ الحاكمة للإسلام، ومنها مبدأ التعايش في جميع الأحوال والأزمان والأماكن، كمبدأ إنساني وأخلاقي وديني؛ فأصبح المسلمون في تناسق واندماج مع العالم الذي يعيشون فيه، وكان الأصل في هذا المبدأ قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.وقال: "إن المنهج الإسلامي في التعايش والحوار مع الأديان والثقافات قد ظهر في سائر أرجاء التراث الفكري الإسلامي؛ فهذا التراث يُعد منبعًا غضًّا لاستخراج وسائل تعزيز الحوار بين الأديان والثقافات".وأوضح أن الاستفادة بهذا التراث الفكري في هذا السياق يتعلق بعامِلَين متلازمين: أما الأول فهو فَهم الموروث الإسلامي، وذلك يأتي بعد المعرفة الكاملة به وتحليله واستخراج المنهج الكامن وراء نصوصه ومساءلة، والوقوف على الدافع وراء هذه النصوص والقضايا والأحداث المتعلقة بالحوار مع الأديان والثقافات، مشيرًا إلى أنه لا بد في هذا السياق من معرفة عناصر العقلية التراثية، وكيف كانت رؤية المفكِّر المسلِم للعالَم؟ وما رأيه في قضايا التعايش والحوار مع الآخر؟ووأضاف أن العامل الثاني الذي تتعلق به الاستفادة بالتراث الفكري الإسلامي في تعزيز الحوار بين مختلف الأديان والثقافات هو امتلاك الأداة الضرورية اللازمة لفهم آليات التعامل معه، وذلك باستنباط النظريات والمناهج العلمية المتعلقة بذلك وإعادة النظر فيها وبناء أنساق تطبيقها على الواقع المتغيِّر، فالمتأمل في التراث الفكري الإسلامي يعرف أنه ككائن حي يتطور ويتفاعل مع محيطه؛ ويؤثر ويتأثر بمتطلبات عصره في ظل نموذج معرفي متكامل.وقال: إنه في مجال الشريعة الإسلامية، إذا أمعنا النظر في صنيع فقهاء الصحابة وكبار التابعين والفقهاء المتبوعين، علمنا أنَّ مراعاة المقاصد الشَّرعية والأصول الكلية والنظر إلى المآلات في سائر التصرفات كان منهجًا واضحًا مطردًا يساعدُ على معرفة الحكم المناسب للواقع، وتجاوز ما لم يعُد ملائمًا وإن كان موروثًا.وضرب بعض الأمثلة على ذلك جمع القرآن في عهد أبي بكر، وكتابته في المصحف الإمام في عهد عثمان، والمقصد هو حفظ دستور الدولة الناشئة، والمنبع الأول لهدي العالم وصلاحه، والمصدر الأساس للتشريع والنظام والقانون، وكذلك عدم إقامة حد السرقة عام المجاعة، وذلك لما رآه عمر بن الخطاب رضي الله عنه من عدم استيفاء الشروط الضرورية الباعثة على التطبيق، والتي منها شبهة المجاعة المُلجِئَة إلى أخذ حق الغير بدون إذن منه للضرورة، والمقصد هو الرفق والتخفيف بمن اضطر إلى السرقة دون اختيارٍ منه ومراعاة ظروف تطبيق الحكم كي يحقق أغراضه وفوائده.واستطرد: "إننا بذلك نقف على أن أول الآليات اللازمة لاستخدام التراث الفكري الإسلامي عامة هو أن نتعامل مع هذا التراث بطريقة تتجاوز الظاهرة الصورية أو الاجترارية إلى المنهجية الواقعية، ونعني بالظاهرة الصورية أن ننظر إلى الموروث بشكل عام باعتباره مقدسًا صالحًا لكل زمان ومكان، فنُنَزِّل الفقه والاجتهاد البشري مثلًا منزلة الشريعة المعصومة، وهذا خطأ منهجي بالغ، لا يمت بصلة إلى منهج أسلافنا الصالحين، بل ويوقعنا في كثير من المشكلات عندما نواجه تلك التراكمات التي ازدحمت بها حركة الحياة في مجالات معاصرة متعددة أبرزها قضايا المرأة وقضايا المعاملات المالية والاقتصادية برمتها وبخاصة المصرفية، ومنها أيضًا مجالات السياسة الشرعية والعلاقات الدولية، ومنها كثير من القضايا المتعلقة بالقضاء الشرعي وطرق الإثبات القضائية، فلا شك أنَّ قدرًا كبيرًا مما كتبه أسلافنا الصالحون في هذه المجالات كان مرتبطًا ولصيقًا بالواقع الذي دوِّن فيه، ولا شك أنَّ تلك الأحكام التي كان الواقع مكونًا أساسيًّا من مكوناتها تتغير بتغير هذا الواقع، وهذا هو المعنى الحقيقي لصلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان".وتابع: من الأمور التي ينبغي علينا أن نلتفت إليها أثناء معالجتنا لقضايا الحوار بين الأديان والثقافات واستخدام الموروث الفكري الإسلامي لتعزيزه - قضيةَ تحرير المصطلحات، ومراعاة التغيرات التي قد تطرأ على دلالة مصطلح فقهي أو فكري ما نتيجة عوامل مختلفة كتغير الزمان والبيئة والأفكار والأعراف التي قد يتواضع عليها الناس أو العُلماء، ثم تتغير الظروف فيتواضعون على غيرها والأمثلة كثيرة مثل دار الإسلام ودار الحرب والخلافة وأهل الذمة إلى آخره.وأكد أهمية أن نوضح لعامة الناس أن بعض الفتاوى أو الأحكام التي يصدرها هذا الفقيه أو ذاك في العصور الخوالي إنما صدرت لمواجهة ظروف استثنائية لا يمكن القياس عليها الآن، ولا بد أيضًا -إذا أردنا أن يكون التراث الإسلامي منبعًا لتعزيز الحوار بين الأديان والثقافات- أن يكون العلماء المسلمون المؤهلون لفهم هذا التراث هم مَن لهم الحق في التحدث باسم الإسلام، وقد رأينا في أحيانٍ كثيرة أن بعض وسائل الإعلام الدولية تستجيب للإغراءات وتعتبر المتطرفين - الذين لا يمثلون إلا أنفسهم- تيارًا سائدًا.وقال: "إن التعامل بين المسلمين وغيرهم من أهل العقائد والأديان والثقافات إنما يقوم على أساس التعاون على الخير الإنساني، وقد جعل الإسلامُ الحوارَ الوسيلةَ المثلى للتفاهم بشأن قضايا الإيمان والعقيدة فقال تعالى: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}؛ فإذا كان الحوار هو الوسيلة المعتمدة في مثل هذه القضايا على خطورتها وأهميتها؛ فإنه يكون أولى بالتطبيق فيما دونها من القضايا والمشكلات، وأولى أن يكون مبدأً عامًّا من مبادئ معالجة معضلات العلاقات الإنسانية بما فيها العلاقات الدولية".واختتم قائلًا: "الأصول المعرفية للرؤية الإسلامية للعالَم تنفي كل مصادر الفرقة والحقد والخصومة والنزاع بين الناس من أي دين كانوا، بل تفتح باب التعاون العملي والتواصل الفعلي والعمل المشترك والتعايش السلمي، فلا ريب أن الحاجة دافعة إلى استخراج هذه الأصول المعرفية من التراث الفكري الإسلامي والاستفادة بها في صياغة ميثاق إرشادي جامع للتواصل والتحاور يُبنَى على أصول راسخة من احترام التعددية الدينية والتنوع الثقافي".
مشاركة :