في محاضرة، ألقاها في الجامعة الأميركية في القاهرة حكيم الرستم تحت عنوان «إعادة النظر في ما بعد العثمانية: التهجير القسري للأرمن وتخليق الشرق الأوسط»، أوضح الرستم الارتباط بين الادعاء (الذي يصدقه هو ويدافع عنه) بوقوع عملية إبادة عرقية عمدية ومنظمة للأرمن العثمانيين في عام 1915، وليس مجرد صراعات أهلية واسعة النطاق راح ضحيتها أرمن وأتراك وغيرهم، وبين الادعاء الصهيوني (الذي ينتقده ولا ينفيه) بإبادة عرقية لليهود في الحرب العالمية الثانية، بإشارته إلى أن المحامي الأميركي اليهودي رافاييل لامكين، أحال إلى المأساتين الأرمنية واليهودية وهو يطرح، في عام 1943، مصطلح «الإبادة العرقية». ومعلوم أن إسرائيل لا تقبل، حتى الآن، بهذا الربط، على رغم أن مصطلح «الإبادة العرقية» الذي لم يظهر إلا بعد محاكمة الزعيم النازي أدولف إيخمان، في 1961، وباستلهام قصة مطاردته واصطياده ومحاكمته. فاجأني أن أجد أن بين جمهور المحاضرة كاهناً أرمنياً، ظل يبتسم هو والمحيطون به من أبناء طائفته، حتى وهم يجادلونني أنا الذي رفضت مبدأ اعتذار أحد أطراف حرب أهلية، متعددة الطرف، انتهت قبل مئة سنة، لطرف بعينه. ولا يقل إثارة للدهشة ما سمعته عن صديقة أرمنية تتبادل مع الأصدقاء في القاهرة، منذ سافرت إلى يريفان، رسائل على الفايسبوك، حول «احتفالها» مع أهل وطنها بالمجزرة، تزدحم (ككل رسائلها مذ عرفناها) بالورود والابتسامات. في المقابل، فلو أننا نتحاور مع صهاينة (وربما حتى مع يهود عاديين) حول المحرقة اليهودية، لوجدنا مشهداً أكثر توتراً وغضباً. نعم، الحزن اليهودي (وليس السردية الصهيونية بطابعها الديني - السياسي) قديم وعميق ومركب. وهو جزء أصيل من الخبرة الإنسانية. لكن المقارنة بين المظلومية اليهودية وبين تلك الأرمنية تكشف عن تفاوتات لا يستهان بها. فللأمة الأرمنية وجود تاريخي قديم لا خلاف عليه، في حين أن وجوداً تاريخياً لـ «أمة» يهودية خارج النصوص اليهودية المقدسة، قبل 1948، هو أمر مختلف عليه. والأهم أنه، منذ استقرت الجمهورية الأرمنية ككيان ذي سيادة، قبل عقود، لم تعد هناك «مسألة أرمنية». ولا تعد مشكلة مثل النزاع على نوغورنو كارباخ مع أذربيجان أمراً يهدد وجود الدولة الأرمنية أو حدودها. في المقابل، كل شبر من الأرض تمتلكه إسرائيل يمكن أن يكون محلّ نزاعٍ بينها وبين الشعب الفلسطيني الذي لا سبيل لتجاهل وجوده، ولا لتجاهل تعاطف عالمي متصاعد معه. وقد نجد في الغد المنظور من يضيف إلى «المحرقتين»، الأرمنية واليهودية، محرقة كردية، يتعين توثيق وقائعها تمهيداً للمطالبة بالاعتراف بها، ثم الاعتذار عنها. وقد تأتي بعد ذلك محرقة أمازيغية، ثم محرقة إيزيدية، أو غير ذلك. صناعة المحرقة الصهيونية (وهي ابتذال لمأساة اليهود في الحرب العالمية الثانية وقبلها) تغري الكثيرين. فإذا عدنا إلى موضوع المأساة الأرمنية، تعين أن نسأل: من الذي يتعين أن يعتذر؟ وقعت مذيعة مصرية أخيراً في خطأ كاشف عندما أنهت تقريراً تلفزيونياً عن الأرمن بالقول إنهم يريدون «اعتذاراً عثمانياً»، فهل بقي في العالم عثمانيون لنطالبهم بالاعتذار؟ والسؤال الأهم: هل الأتراك وحدهم الذي يتعين أن يعتذروا أم أننا، جميعاً كمسلمين، مطالبون بالاعتذار كعثمانيين سابقين؟ المنظمة التي يمكن تحميلها، أكثر من غيرها، المسؤولية عما جرى للأرمن في 1915 هي «تشكيلاتي ماهسوسا»، ولو ترجمنا اسمها إلى العربية لوجدناه «النظام الخاص»، وهو اسم الجهاز السري الذي أقام مثله حسن البنا حول جماعة «الإخوان المسلمين». قامت هذه المنظمة السرية، على فلسفة وعلى أسلوب عمل يذكّران المرء بـ «الإخوان المسلمين»، بل إن بعض كوادرها كانوا من أقرب الناس إلى حسن البنا: عبدالرحمن عزام باشا، ومحمد صالح حرب باشا، وربما أيضاً أمين الحسيني. لهذا، فقد تغري أخطاء «الإخوان المسلمين» المرء بأن يسحب موقفه منهم على الموقف مما جرى في خواتيم الزمن العثماني. لكن، يتعين أن نتذكر أن «تشكيلاتي ماهسوسا» كانت تستهدف ثلاث حركات قومية: الأرمنية والكردية والعربية. أما اليونانيون فقد صاروا حالة مستعصية مذ انفجرت حرب التحرير اليونانية في 1821. فلماذا الكلام اليوم عن الضحايا الأرمن وحدهم؟ يقول الشاعر والناقد تي إس إليوت («التقاليد الأميركية في الشعر الإنكليزي»، بول جايلز، 2006) إن الحروب الأهلية لا تنتهي. هذا كلام يصدق على العلاقة بين الترك والكرد، حتى تقوم للكرد دولة فلا يعود ما بين القوميتين شأن أهلي. أما الأمة الأرمنية (وليس الجالية الأرمنية في تركيا) فالحرب الأهلية انتهت بالنسبة إليها مذ قامت جمهوريتها المستقلة. لكنها لا تزال قائمة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وتجديد المرارات بتعزيز صناعة الهولوكوست لا يساعد على إنهائها. لكن الحرص على إبقاء الجرحين الأرمني واليهودي مفتوحين قد يكون له إطار فوق إقليمي يتجاوز شعوبنا، الموزعة عبر فوالق fault lines العداوات التاريخية المتنوعة، وإن تنزّل عليها، متدفقاً من باريس، بدورها المتميز في تأسيس سردية المأساة الأرمنية، على الأقل منذ تأسيس الفيلق الفرنسي - الأرمني (في 1916) بعد أن وعدت اتفاقات سايكس بيكو الفرنسيين بحكم أرمينيا («أحلام مضيَّعة»، ييراز آبكاريان) ونيويورك مركز سردية المأساة اليهودية في نسختها الصهيونية، ليعيد ترسيم الفوالق بينها. ولا بد من تذكر ما قاله لص الآثار الشهير، الوزير والكاتب الفرنسي آندريه مالرو الذي اتهمته «نيويورك تايمز» في أول نيسان (أبريل) 1999 و «الغارديان» (في اليوم التالي) بأنه سرق طناً من الآثار الكمبودية عام 1924. لا نتحدث هنا عن سرقاته، بل عن قول مهم ينسب إليه. قال مالرو، قبل وفاته في 1976 بشهور قليلة («الثورة والتمرد والمقاومة»، إريك سيلبين 2010) أن «القرن الحادي والعشرين سيكون قرنَ الدين أو لن يكون». يتحقق ما نبه إليه مالرو (يعتبره البعض نبوءة، فهل يتنبأ لصوص الآثار، أو أي لصوص؟) عبر الطابع الديني - السياسي القوي للصراعات التي دخلنا بها إلى القرن الحالي آتين من مآسي البلقان، في نهايات القرن العشرين، إلى الهجمات الملغزة على أهداف في نيويورك وواشنطن في خريف 2001، وما تلى ذلك من زحف أطلسي وجنون أصولي تكابدهما منطقتنا اليوم، ويتقاطع هذا كله مع تحول قضية فلسطين من قضية تحرر وطني ضد كولونيالية استيطانية، إلى حرب دينية. وفي مسار موازٍ، وإن بفارق زمني، تحولت مأساة الأرمن التاريخية التي تمخضت عن انتصار تاريخي بقيام الجمهورية المستقلة، إلى ميثولوجيا دينية: إلى ألمٍ مقدس، بما هو ألم لا ينبغي له أن ينتهي، مع تعمد غض النظر عن حقيقة مؤداها أن الجهود التي بذلتها الحكومات التركية والفرنسية والبريطانية والأميركية، بعد تصفية الكيان العثماني، للعثور على ما يدين مسؤولين عثمانيين سابقين متهمين بتدبير مذابح للأرمن، لم تسفر عن شيء، فاضطرت بريطانيا إلى إطلاق سراحهم، بعد احتجازهم ثلاث سنوات، في مالطا. وجدير بالذكر أن حكيم الرستم (ذا الخلفية الأكاديمية البريطانية)، وهو يقر بأن الأدلة على وقوع إبادة عرقية للأرمن «مبعثرة» scattered، ما فهمت منه أنه اعتراف بأنها لا تؤسس خطابَ إدانة دامغة، يدعو من يبحث عن الحقيقة إلى التركيز على المرويات، مفضلاً إياها على البراهين والوثائق. وفي اليوم التالي، نشرت «الغارديان» البريطانية تقريراً عن «مذبحة» الأرمن ينقلنا من الاعتماد البريطاني القديم على وثائق تستبعد فرضية الإبادة، إلى اعتماد على ما رواه أحفاد لرجال ونساء ماتوا قبل قرن من الزمان، لتأكيد وقوع الإبادة. ولا شك في أن هذا التملص من قيود البرهنة والتوثيق يساعد على الانتقال إلى فضاءات الميثولوجيا الدينية، القابلة للتوظيف سياسياً. من جهة أخرى، فالتمهيد الفاتيكاني، مرة في عهد يوحنا بولس الثاني، في بيان مشترك مع رأس الكنيسة الأرمنية كاريكين الثاني (2001) ومرة على لسان فرانسيس، في حضور كاركين والرئيس الأرمني (نيسان 2015) هو تكريس للطابع الديني – السياسي لمزاعم الإبادة الأرمنية، خصوصاً أن فرانسيس ربط ما جرى للأرمن بتدهور مركز المسيحيين في الشرق الأوسط الراهن، وهو ما تعزز بحديث فرنسوا هولاند (25 نيسان) عن أخطار اقتلاع المسيحيين من الشرق الأوسط. كل ما سبق وجهات نظر، يمكن الجدل حولها، وحول توظيفها لأغراض دينية - سياسية، ولكن ليس في بلدان تعتبر إنكار الإبادة الأرمنية أو الهولوكوست جرماً يعاقب عليه القانون. نعرف نحن المسلمين ما يدعوه الفقهاء «إنكار المعلوم من الدين بالضرورة»، وهو «المعلوم الذي لا يحتاج في إثباته إلى دليل». أما «إنكار المعلوم من التاريخ بالضرورة» فشيء جديد. وهو جديد يتناغم مع القرن الواحد والعشرين الذي يريد له، ليس فقط العابثون بذاكرة النوع البشري من لصوص الآثار، بل وكثيرون غيرهم، أن يكون قرنَ الصراع بين أتباع الديانات، أو لا يكون.
مشاركة :