في مطلع القرن العشرين شهد العالم تطورات اجتماعية وتكنولوجية كبيرة، كما بذلت أول محاولة للحد من احتمالات نشوب الحروب المدمرة ما بين الدول، وهو ما أشاع أجواء من التفاؤل في تلك الحقبة. لم تكد تمر خمسة أعوام حتى تبددت تلك الأجواء المتفائلة وأرخى التشاؤم بظلاله على العالم الذي دخل في مرحلة تاريخية قاتمة ومضرجة بالدماء. فقد اندلعت الحرب بين روسيا والصين وحدثت الثورة البلشفية التي أطاحت بحكم سلالة القياصرة في روسيا ونشبت أزمة طنجة ما بين فرنسا وألمانيا واندلعت الحرب العالمية الأولى أو الحرب الكبرى التي خلفت ملايين القتلى وخلفت نظاما عالميا جديدا وزرعت بذور الحرب العالمية الثانية (1939-1945) وأفرزت تداعيات وخيمة. مع بداية القرن الحادي والعشرين تركزت المخاوف حول خطر حدوث أزمة معلوماتية مدمرة، غير أن ذلك لم يحدث. أما في 11 سبتمبر من سنة 2001 فقد اهتز العالم على وقع الهجمات بالطائرات التي استهدفت برجي التجارة العالمية في نيويورك ومبنى البنتاجون في واشنطن، وهو ما عاد بعواقب وخيمة على العالم وأشعل فتيل الحرب بعد ذلك في أفغانستان والعراق. في سنة 2005 تغيرت الساحة الدولية بشكل جذري؛ فقد تحولت منطقة الشرق الأوسط ومنطقة الشرق الأقصى إلى ساحتين لكوارث تاريخية جديدة، فقد بدأت الأزمة النووية الإيرانية وتصاعد التوتر بين الولايات المتحدة الأمريكية وكوريا الشمالية وتجدد التوتر حول المسألة التايوانية وازداد العداء بين الصين واليابان وسط التراكمات التاريخية المعروفة، ثم بدأت آفة الارهاب على الساحة الدولية ومن ثمّ انضافت إلى عديد الأخطار والتحديات الجسيمة التي باتت تواجه المجتمعات في مختلف أرجاء المعمورة، من بينها التغيرات المناخية. استندت المؤلفة تيريز دلبيش إلى هذه التحديات والصراعات والحروب والنزاعات المسلحة لتقول في كتابها إن العالم والانسانية باتا مهددين بالانزلاق من جديد إلى حالة من التوحش في ظل تنامي عوامل الدمار والعدمية. توفيت المؤلفة تيريز دلبيش سنة 2012 وقد كانت تعتبر واحدة من أفضل العقول المفكرة في فرنسا، ذلك أنها متخصصة في الفلسفة وقد سخرت ثقافتها الكبيرة في بلورة رؤيتها للعلاقات الدولية. أثارت هذه المؤلفة جدلا واسعا عندما صدر لها كتاب بعنوان «التوحش» وذلك قبل عشرة أعوام من الآن. عاد الكثير من المحللين والنقاد والمفكرين خلال الأعوام القليلة الماضية لتسليط الأضواء على هذا الكتاب وأبرزوا أهميته واعتبروا أن المؤلفة قد استشعرت المستقبل ونبهت إلى الأخطار والتحديات القادمة. في مختلف العصور عبر التاريخ يوجد مفكرون يستبقون عصرهم بعشر سنوات أو أكثر ويقرأون تحديات وأخطار المستقبل. كانت تيريز دلبيش واحدة من هؤلاء المفكرين الذين يسبقون عصرهم. اعتبرت المؤلفة في كتابها أن أوروبا قد أصبحت أكثر القوى العالمية نزعة محافظة في العصر الحديث. فالأفكار الجديدة لم تعد تباع من أوروبا على عكس ما كان يحدث في العصور الماضية، عندما كانت فرنسا، على وجه الخصوص، تمثل القاطرة التي تقود العالم في مجال التحديث والتنوير في العالم. تقول المؤلفة في أحد فصول كتابها المذكور: «أصبح التفكير الأوروبي على وجه الخصوص رجعيا. لم يعد لأوروبا ما تقول». في فصل آخر من كتبها، تقول المؤلفة: «لقد أصبحنا في أوروبا نجد صعوبة كبيرة في تحديد أعدائنا بعد أن توهمنا أننا قد طوينا عصر الحروب ودخلنا في مرحلة ما بعد الصراعات وقلنا بنهاية التاريخ وأصبحنا نريد ألا يكون لنا إلا المنافسون والشركاء. نحن في الغرب عامة وفي أوروبا على وجه الخصوص نعيش حالة من الانكار التاريخي». تنتقد المؤلفة الغرب وتعتبر أن له تاريخا طويلا في إنكار الكوارث الوشيكة. فالغرب فشل في أكثر من محطة تاريخية من قبل ولم يتوقع الثورة الشيوعية البلشفية في روسيا في سنة 1917 ولم يتوقع الثورة الماوية الشيوعية في الصين، كما أنه فشل في توقع نشوب الحربين العالميتين الأولى والثانية أو الثورة الثقافية الصينية أو المأساة الكمبودية وما ارتكبه الخمير الحمر من جرائم شنيعة، كما أننا وصلنا في الغرب إلى ذروة الفشل يوم 11 سبتمبر 2001 مع انهيار برج التجارة العالمية بطوابقه المائة في نيويورك. غلب التشاؤم على هذا الكتاب الذي سعت فيه المؤلفة إلى رصد الاتجاهات السياسية والاستراتيجية في العالم واستشراف التحديات والأخطار التي ستواجه العالم، وقد صدقت توقعاتها في نواح عدة. نهلت المؤلفة من معرفتها الموسوعية بواقع العلاقات الإقليمية والدولية مع قراءة للأحداث التاريخية التي عرفها العالم على مدى العقود الماضية لتخلص إلى القول «إن القرن الحادي والعشرين لن يقل توحشا عن القرن العشرين الذي شهد الحربين العالميتين الأولى والثانية». كتبت المؤلفة تقول: «لقد أظهر التاريخ في مختلف محطاته أن وحشية الفعل تكون مسبوقة في أغلب الأحيان بتوحش الفكر البشري»، وهي تعتبر أنه لا يمكن إصلاح الشأن السياسي من دون التفكير الأخلاقي الذي يعتبر ضروريا حتى تتمكن البشرية من التوقي من الكوارث التي قد يخبئها لنا القرن الحادي والعشرين. لا تزال الأفكار والأطروحات التي عبرت عنها المؤلفة في كتبها ومقالاتها تؤثر وتثير الجدل في الدوائر الفكرية والمؤسسات البحثية والأكاديمية، وقد كانت تعتبر في حياتها من ألمع المفكرين الاستراتيجيين الفرنسيين، وقد برزت على وجه الخصوص بقولها إن «القرن الحادي والعشرين لن يقل توحشا عن القرن العشرين» في قراءة استشرافية للمستقبل. تذكرنا تيريز دلبيش بالزعيم الشيوعي ليون تروتسكي الذي قال كلاما توقع بين ثناياه الأهوال التي ستحدث في القرن العشرين: «على كل من يطمح إلى الاستمتاع بحياة هادئة أن يدرك أنه قد أخطأ عندما ولد في القرن العشرين». رسمت المؤلفة مقارنة ما بين عامي 1905 و2005 وراحت ترسم الصورة التي قد يكون عليها القرن الحادي والعشرين وتشخص الكثير من الأخطار والتحديات والرهانات والاشكاليات التي ستواجه الإنسانية، بما في ذلك الأخطار الإرهابية والتحديات البيئية. تركز المؤلفة على وجه الخصوص على ثلاثة تهديدات رئيسية هي تنامي الإرهاب الدولي وانتشار أسلحة الدمار الشامل وتنامي النفوذ الصيني في العالم، علما أن كتابها كان قد صدر قبل ظهور تنظيم «داعش الإرهابي»، كما نبهت في كتابها إلى أن «المعركة الاستراتيجية الحقيقية ستكون مستقبلا في القارة الآسيوية». اختارت المؤلفة سنة 1905 لأنها السنة التي شهدت ميلاد عصر الحداثة في العالم كما شهدت اكتشاف العالم الفذ ألبرت آينشتاين نظرية النسبية، كما نشر العالم سيجموند فرويد كتابه الشهير حول المسألة الجنسية الذي أسس من خلاله أسس علم النفس. شهدت الإنسانية إنجازات كبيرة في بداية القرن العشرين الذي كان بعد ذلك ساحة لعديد الصراعات والحروب والمآسي التي أدت إلى إزهاق أرواح الملايين. انهارت الامبراطورة القيصرية الروسية وقامت الثورة البلشفية الشيوعية وتنامت السياسات العسكرية اليابانية ووصل الفاشيون والنازيون إلى الحكم في إيطاليا وألمانيا من رحم الأزمة المالية والاقتصادية التي هزت المعاقل الاقتصادية الغربية في سنة 1929. اختارت المؤلفة بعد ذلك أن تنطلق من سنة 2005 لكي تحلل الأحداث الجسيمة التي هزت العالم على مدى قرن من الزمن قبل أن تبدأ في استشراف المستقبل وتحذر من الأخطار والتهديدات التي ستواجهها الدول والشعوب وهو ما ثبتت صحته. ركزت المؤلفة أولا على آفة الإرهاب معتبرة أن «الحرب على الإرهاب ستكون طويلة». تطرقت بعد ذلك إلى خطر الانتشار النووي على وقع الأزمة حول البرنامج النووي في كل من إيران وكوريا الشمالية. أما في المحور الثالث فقد ركزت المؤلفة على المسألة الاستراتيجية الرئيسية التي ستطغى على القرن الحادي والعشرين؛ أي الصراع المتنامي ما بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين. شددت المؤلفة منذ سنة 2005 على ضرورة أن يبادر الغرب بوضع استراتيجية عاجلة وشاملة للتعامل مع النفوذ الصيني المتنامي خلال القرن الحادي والعشرين. حذرت المؤلفة في هذا الصدد من أن الصين ستكون في حاجة إلى عشرين سنة فقط -ما بين عامي 2005 و2025- لكي تستكمل تحديث جيشها مع استمرار تنامي نفوذها الاقتصادي في العالم. نبذة عن المؤلفة: تيريز دلبيش خريجة دار المعلمين العليا المرموقة في فرنسا، وقد عملت حتى وفاتها سنة 2012 أستاذة تدرس الفلسفة في الجامعات الفرنسية، كما أنها عملت كباحثة لدى مركز الدراسات والبحوث الدولية إلى جانب عضويتها في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن. ألفت تيريز دلبيش مجموعة من الكتب المهمة، نذكر منها على وجه الخصوص كتاب «الإرث النووي» (دار فلاماريون، 1998)، وكتاب: «سياسة الفوضى» (دار لوسوي، 2002) وكتاب «التوحش»، وكتاب «إيران.. القنبلة واستسلام الأمم»، كما نشرت لها عشرات المقالات في مجلات كومونتير، والسياسة الدولية، والسياسة الخارجية وغيرها، وقد تطرقت فيها إلى المسائل السياسية والفكرية والاستراتيجية. اعتبرت عديد الدوائر السياسية والفكرية أن تيريز دلبيش كانت من ألمع المفكرين والمحللين السياسيين في أوروبا. لونوفيل أوبزرفاتور
مشاركة :