ذكر الفيلسوف والأديب أبو حيان التوحيدى في كتابه «الإمتاع والمؤانسة» أن الوزير أبا عبدالله العارض وزير ابن عضد الدولة البويهي، سأله في الليلة السابعة والعشرين التي سامره ونادمه فيها، عن "كنه الاتفاق وحقيقته"- ويقصد الأمور التي تقع بالمصادفة- قائلا: كنت أحب أن أسمع كلامًا في كُنه الاتفاق وحقيقته، فإنه مما يحار العقل فيه، ويزلُّ حزم الحازم معه، وأحب أيضًا أن أسمع حديثًا غريبًا فيه.فسرد له "التوحيدي" الكثير من القصص التي وقع فيه اتفاق ومصادفة غريبة، قائلا: حدثني أبو الحسن على بن هارون الزَّنْجاني القاضي صاحب المذهب قال: اصطحب رجلان في بعض الطرق مسافرَين: مجوسيٌّ من أهل الرَّيِّ، والآخر يهوديٌّ من أرضجَيٍّ -مدينة بناحية أصبهان- وكان المجوسي راكبًا بغلة له عليها سُفرة من الزاد والنفقة وغير ذلك وهو يسير مرفَّهًا وادعًا، واليهودي يمشي بلا زادٍ ولا نفقة. فبينا هما يتحادثان إذ قال المجوسي لليهودي: ما مذهبك وعقيدتك يا فلان؟ قال اليهودي: أعتقد أن في هذه السماء إلهًا هو إله بني إسرائيل، وأنا أعبده وأقدسه وأضرع إليه، وأطلب فضل ما عنده من الرزق الواسع والعمر الطويل، مع صحة البدن والسلامة من كل آفة والنصرة على عدوي، وأسأله الخير لنفسي ولمن يوافقني في ديني ومذهبي فلا أعبأ بمن يخالفني، بل أعتقد أن من يخالفني دمه لي يحل، وحرام عليَّ نصرته ونصيحته والرحمة به. ثم قال للمجوسي: قد أخبرتك بمذهبيوعقيدتي وما اشتمل عليه ضميري، فخبرني أنت أيضًا عن شأنك وعقيدتك وما تدين به ربَّك؟ فقال المجوسي: أما عقيدتي ورأيي فهو أني أريد الخير لنفسي وأبناء جنسي، ولا أريد لأحدٍ من عباد لله سوءًا ولا أتمنى له ضرٍّا لا لموافقي ولا لمخالفي. فقال اليهودي: وإن ظلمك وتعدى عليك؟ قال: نعم، لأني أعلم أن في هذه السماء إلهًا خبيرًا عالمًا حكيمًالا تخفى عليه خافيةٌ من شيء، وهو يجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. فقال اليهودي: يا فلان، لست أراك تنصر مذهبك وتحقق رأيك. قال المجوسي: كيف ذاك؟ قال: لأني من أبناء جنسك وبشرٌ مثلك وتراني أمشي جائعًا نصبًا مجهودًا وأنت راكبٌ وادعٌ مرفَّهٌ شبعان. فقال: صدقتَ، وماذا تبغي؟ قال: أطعمني من زادك، واحملني ساعةً فقد كلَلْت وضعُفت. قال: نعم وكرامة. فنزل ومدَّ من سفرته وأطعمه وأشبعه ثم أركبه ومشى ساعة يحدثه. فلما ملك اليهودي البغلة وعلم أن المجوسي قد أعيا، حرَّك البغلة وسبقه وجعل المجوسيُّ يمشي ولا يلحقه، فناداه: يا فلان، قف لي وانزل فقد انحسرتُ وانبهرتُ.فقال اليهودي: ألم أخبِّرك عن مذهبي وخبَّرتني عن مذهبك ونصرتَه وحققتَه؟ فأنا أريد أيضًا أن أحقق مذهبي وأنصررأيي واعتقادي. وجعل يحرك البغلة والمجوسيُّ يقفوه على ظَلَع وينادي: قف يا هذا واحملني ولا تتركني في هذا الموضع فيأكلني السبُع وأموت ضَياعًا وارحمني كما رحمتك. واليهودي لا يُلْوي على ندائه واستغاثته حتى غاب عن بصره. فلما يئس المجوسيُّ منه وأشفى على الهلَكة ذكر اعتقادَه وما وصف به ربَّه فرفع طرفه إلى السماء وقال: إلهي، قد علمتَ أني اعتقدتُ مذهبًا ونصرتُه ووصفتك بما أنت أهله وقد سمعتَ وعلمتَ، فحقِّق عند هذا الباغي عليَّ ما مجَّدتك به ليعلم حقيقةَ ما قلتُ. فما مشى المجوسي إلا قليلًا حتى رأى اليهوديَّ وقد رمت به البغلة واندقَّت عنقه وهيواقفةٌ ناحيةً منه تنتظر صاحبها. فلما أدرك المجوسيُّ بغلته ركبها ومضى لسبيله، وترك اليهوديَّ معالجًا لكرب الموت، فناداه اليهودي: يا فلان، ارحمني واحملني ولا تتركني في هذه البرِّيَّة أهلِكْ جوعًا وعطشًا، وانصر مذهبك وحقِّق اعتقادك. قال المجوسي: قد فعلتُ ذلك مرتين، ولكنك لم تفهم ما قلت لك ولم تعقل ما وصفتُ. فقال اليهودي: وكيف ذلك؟قال: لأني وصفت لك مذهبي فلم تصدقني في قولي حتى حققته بفعلي، وذاك أني قلت: إن في هذه السماء إلهًا خبيرًا عادلًا لا يَخفى عليه شيء، وهو وليُّ جزاء المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. قال اليهودي: قد فهمتُ ما قلتَ وعلمتُ ما وصفتَ. قال المجوسي: فما الذي منعك من أن تتعظ بما سمعت؟ قال اليهودي: اعتقادٌ نشأت عليه ومذهبٌ تربيت به، وصار مألوفًا معتادًا كالجبلَّة بطول الدأب فيه، واستعمال أبنِيته، اقتداءً بالآباء والأجداد والمعلمين من أهل ديني ومن أهل مذهبي، وقد صار ذلك كالأسِّ الثابت والأصل النابت، ويصعب ما هذا وصفه أن يُترك ويُرفَض ويُزال.فرحمه المجوسيُّ وحمله معه حتى وافى المدينة وسلَّمه إلى أوليائه محطمًا موجعًا، وحدَّث الناس بحديثه وقصته فكانوا يتعجبون من شأنهما زمانًا طويلًا.وقال بعض الناس للمجوسيِّ: كيف رحمته بعد خيانته لك، وبعد إحسانك إليه؟ قال المجوسي: اعتذر بحاله التي نشأ فيها ودأب عمرَه في اعتقادها وسعى لها واعتادها، وعلمتُ أن هذا شديد الزوال عنه وصدقتُه ورحمته، وهذا مني شكرٌ على صنع لله بي حين دعوته عند ما دهاني منه، وبالرحمة الأولى أعانني ربي، وبالرحمة الثانية شكرتُه على ما صنع بي.وعلق "التوحيدي" على هذه القصة قائلا: هذا كله سردناه لسبب الأمر الذي يبدو من غير جَنان، والعارض الذي يبرز من غير توهُّم.
مشاركة :