في عام 1907 كتب الأديب العربي عباس محمود العقاد مقالا بعنوان (الاستخدام رق القرن العشرين) ويعني (بالاستخدام) الوظيفة الثابتة، قال في المقال: «إن نفوري من الوظيفة الحكومية في مثل ذلك العهد الذي يقدسها كان من السوابق التي أغتبط بها وأحمد الله عليها، فلا أنسى حتى اليوم أنني تلقيت خبر قبولي في الوظيفة الأولى التي أكرهتني الظروف على طلبها كأنني أتلقى خبر الحكم بالسجن أو الأسر والعبودية، إذ كنت أؤمن كل الإيمان بأن الموظف رقيق القرن العشرين». ومنذ تلك اللحظة فقد انتشرت الكثير من الأفواه التي تنادي بالمقولة التي تقول (إن الوظيفة هي عبودية القرن العشرين، أو عبودية الوظيفة)، فهل هذا صحيح؟ وهذه القضية كانت ذات يوم محور حديث إحدى المجالس المسائية، ترى كيف كانت تدور الأحاديث وفي أي اتجاه؟ لنحاول من خلال هذا المقال أن نتعرف على آراء العلماء والمتحدثين الذين يؤمنون بأن الوظيفة عبودية، ومن ثم نعرج على آراء الذين يعتقدون العكس، وفي النهاية سنحاول أن نتحدث عن رأينا في هذا الموضوع. أولاً: آراء من يقول إن الوظيفة عبودية؛ يجد أصحاب هذا المذهب أن الوظيفة والاستمرار فيها يمكن أن تؤدي إلى: 1. التقليل من فرص التحدي، في الوظيفة لا توجد فرص للتحدي، فالموظف يأتي الى العمل كل يوم ويؤدي العمل الروتيني من خلال أوامر من المسؤولين، وفي نهاية اليوم يترك الأعمال ويعود إلى المنزل، وفي اليوم الثاني يعود الى العمل ليؤدي ما يعرفه من عمل بصورة أو بأخرى، فهو في هذا أشبه ما يكون بالحيوان الذي يدور في الساقية، فهو يسير في خط واحد كل يوم، وإن حاول أن يغير فإنه يواجه بالكثير من العراقيل والصعوبات وأوامر المسؤولين، لذلك فإنه مع الزمن لا يأمل في التغير ولا يرغب فيه، وإن حدث العكس إن أرادت المؤسسة التي يعمل فيها أن تغير بعض الأعمال التي يقوم بها، فإنه يتعكر مزاجه ويجد أنه سوف يغرق في بحر من المشاكل التي لا تنتهي، لذلك فإنه يقف ضد التغيير، وهذا دائمًا يقلل من فرص التحدي الذي يعيشه الإنسان. 2. التقليل من فرص التفكير الإبداعي، ففي سوق العمل حيث تتزايد المنافسات وتقل فرص اقتناء الفرص، فإن على رائد الأعمال أن يوجد تلك الفرص، وهذا يعني التفكير بطرق خارجة عن المألوف لإيجاد فرص العمل والبحث في سبل الرزق، بمعنى آخر التفكير بطريقة إبداعية، لذلك فإن ريادة الأعمال مرتبطة بصورة أو بأخرى بالتفكير الإبداعي والابتكاري، فلا يمكن أن ينجح رائد أعمال إن لم تكن لديه هذه القدرة على توالد الأفكار الإبداعية والابتكار، فالأسواق مثل المحيطات الهائجة فهي دائمًا في حالة من الهيجان والتغير، والتحدي، فإن فقد رائد الأعمال هذه القدرات فإنه حتمًا سيغرق، لذلك فإن التفكير الإبداعي والابتكار واحد من الخصائص المهمة التي يجب أن يتمتع بها رائد الأعمال. 3. التقليل من فرص تنمية القدرة القيادية، فالوظيفة الثابتة لا تنمي القدرة القيادية لدى الإنسان، بل على العكس ففي الوظيفة وعندما يجد بعض المسؤولين أن الموظف يتمتع ببعض الصفات القيادية فإنهم–يمكن–أن يحطموا هذه القدرة ويخنقوها، وذلك خوفًا من أن يقوم هذا الموظف القيادي بالكشف عن ضعفهم سواء كان يقصد ذلك أو لا يقصد، لذلك فإن هذا الموظف القيادي يجد نفسه بعد فترة من الزمن مهمشا ومبعدا من الأعمال المهمة التي يقوم بها غيره من الموظفين العاديين، لذلك يحبط ويمكن أن يكتئب. ولكن يحدث العكس تمامًا عندما يكون المرء رائد عمل، فإنه ينمي القدرة القيادية عنده لأنه مضطر أن يتحكم في نفسه وفي ذاته ويطورها، وكذلك عليه طوال الوقت أن يفكر في السوق وتقلباته، وبالإضافة إلى ذلك فإنه عليه أن يدير المؤسسة التي هو مسؤول عنها بكل ما فيها. 4. التقليل من فرص الثراء والارتقاء والأمن المالي، في الوظيفة يتسلم الموظف راتبا ثابتا، وهذا الراتب موزع على توفير الاحتياجات الأساسية للإنسان، مثل تسديد القروض ومستلزمات المعيشة ومصاريف المدارس والسكن ومثل ذلك، وفي نهاية الشهر لا يبقى للموظف أي مبلغ يمكن توفيره، وإنما يبقى متحفظًا على نفسه ومقللا المصاريف وربما يكون مدانًا حتى يأتي راتب الشهر التالي، وهكذا من شهر إلى آخر، فهو لا يطمح إلى أكثر من ذلك، أما رائد الأعمال فإنه من خلال قدرته على تدبر أموره المالية، فإنه يمكن أن يوفر ولو القليل من المال من أجل المستقبل ومن أجل أولاده ومستقبله وتحقيق بعض أهدافه المؤجلة، ففي الأشهر التي تكون لديه الوفرة فإنه يوفر ذلك المبلغ من المال حتى إن كان قليلاً، وفي أشهر الندرة فإنه يصرف على قدر ما يمكن. 5. الوظيفة قيد وعبودية وتقلل من فرص التحرر، أثناء الوظيفة فإن المرء لا يستطيع أن يخرج من العمل ليقوم ببعض الأعمال هنا وهناك، سواء مراجعة الأطباء أو حتى القيام ببعض الأعمال الخاصة إلا بالاستئذان، وحتى أن الكثير من المؤسسات تمنع الموظف من استخدام الهاتف الخاص أثناء فترة الدوام مثل البنوك وبعض الشركات التي يتعامل فيها المرء مع العميل بصورة مباشرة، وكذلك لا يمكن السفر والتمتع بالدنيا إلا في فترة إجازته السنوية فقط وخلاف ذلك فإنه قابع في مكتبه أو مكان عمله حتى يأمر المسؤول، وهذه عبودية وهي تشبه تلك العبودية القديمة والرقيق، فالعبد – في غابر الزمان – كان لا يستطيع أن يفعل أي شيء إلا بموافقة سيده، فلا يسافر ولا يتزوج أو حتى يقرر إلا بعد موافقة سيده، وهذه تشبه تلك، وعكس ذلك بالنسبة الى رائد الأعمال. ثانيًا: آراء من يعتقد أن الوظيفة ليست عبودية؛ وبعكس الرأي الأول فإن أصحاب هذا الرأي يجدون أن الوظيفة، عادة ما تكون: 1. أمن وظيفي، توفر الوظيفة الأمن الوظيفي، وهي واحدة من الاحتياجات الأساسية من الاحتياجات الإنسانية حسب هرم ماسلو أو غيره من النظريات التي تحدثت عن الأمن، فالراتب ثابت والحياة واضحة، وبالتالي المصروفات محددة، فلا توجد مغامرات ولا مخاطرات كما يحدث في الأعمال الحرة وعالم ريادة الأعمال الذي لا يعرف هل يكسب في هذه الصفقة أم يخسر، فيظل المرء في حالة من التفكير الدائم في الكسب أو الخسارة. 2. أمن تقاعدي، الوظيفة توفر بالإضافة إلى الراتب الثابت الواضح التقاعد المريح، فخلال فترة العمل – مهما كانت طويلة أو قصيرة – فإن المرء يوفر خلالها مبلغا من المال من أجل المستقبل وتقاعد مريح، وحتى إن توفاه الله سبحانه فإن أولاده يرثون ذلك التقاعد إن كانوا تحت السن القانوني، وهذا نوع من الأمن المهم الذي ينشده الكثير من الآباء. 3. من غير الموظف لا توجد خدمات ولا مؤسسات، لنتصور لو قام كل الناس بالعمل في مجال ريادة الأعمال والأعمال الحرة فمن سيقوم بتقديم الخدمات للمواطنين، فالتصور أن المواطن يريد أن يبني منزله، فمن يقوم ببناء المنزل إن لم يكن هناك عمال؟ من يقوم بزرع الأشجار وجني الثمار وتربية المواشي؟ من يقوم باستخراج جواز السفر إن لم يكن هناك موظفون يقومون بذلك؟ من يقوم بالتدريس والتعليم إن لم يكن هناك معلمون ومعلمات؟ والكثير من المهن، فإن لم يكن هناك موظف وعامل فمن يقدم كل تلك الخدمات للبشر؟ أليس هو الموظف والعامل؟ 4. ضغط الوظيفة الثابتة – في بعض الأحيان – تعطيك مجالا للإبداع، يروي أحدهم قصة قصيرة، وهذا الشخص كان مبدعا وذا قدرة على رسم اللوحات التشكيلية التي تباع بأثمان غالية، وهذا الشخص كان يعمل في وظيفة صباحية، ويربح من بيع لوحاته أكثر من وظيفته الثابتة، وبعد ما يعود من العمل – كل يوم – يدخل مرسمه ويقوم بالرسم والإبداع، ولكن وجد نفسه تحت ضغط شديد ما بين الوظيفة والموهبة التي منحها له الله سبحانه، لذلك قرر أن يتقاعد ويتفرغ للرسم والإبداع، وبعدما تفرغ للفن وجد أن الإلهام فارقه وجلس حائرًا ولم يتمكن من الإبداع، والسبب الرئيسي لذلك ان هذا الشخص كان يتعرض لضغوط خلال الفترة الصباحية عندما يكون في العمل، وبالتالي عندما يجلس أمام اللوحة كان يفرغ كل هذا الضغط في اللوحة وبالتالي يبدع، وعندما تفرغ وتقاعد فقد عنصر الضغط والإبداع، ففقد كل ما يملك. 5. تنظيم الوقت وتنظيم الحياة، الزمن بالنسبة الى الموظفين ثابت ومعروف ومنظم، فهو يدخل مبنى المؤسسة التي يعمل فيها في تمام الساعة (...) ويخرج في تمام الساعة (...)، وبعدها يذهب الى المنزل، ويرتاح ويبقى لديه جزء من اليوم يمكن أن يصرفه في بقية شؤون حياته، وفي نهاية اليوم يذهب الى النوم الساعة (...) حتى يستيقظ في اليوم التالي ليذهب الى العمل، وإجازاته الأسبوعية محددة، وإجازته السنوية كذلك محددة ولا تحتاج إلى الكثير من الجهد حتى تبين، وتستمر بالنسبة له الحياة على هذا المنوال، حياة واضحة ومنظمة ولا تحتاج إلى الكثير من الجهد حتى تظهر معالمها، أما في الأعمال الحرة وريادة الأعمال فلا وقت واضحا ومحددا للعمل، فكل الأوقات عمل، ولا توجد إجازات محددة، وحياة المرء بين مطرقة سوق العمل وسندان تقلباته، فرائد العمل مشغول طوال الوقت يفكر كيف يكسب رزقه ومن أين يكسبه، ويمكن أن تمر عليه أزمنة كثيرة وهو خالي اليدين من الفلوس، وربما تفلس المؤسسة التي هو أنشأها، ويمكن أن يضطر إلى إعلان إفلاسه هروبًا من الدائنين، بمعنى أن حياة رائد الأعمال كلها مغامرة ومجازفات، حياة غير مستقرة ولا يوجد فيها أمان وظيفي. ثالثًا: رأينا في الموضوع؛ نعتقد هنا أن الأمور ليست مجرد رأي ومدرسة يمكن أن نأخذ هذه أو تلك لتستمر الحياة، فالحياة – كما نعتقد – لا تسير على منوال واحد، إما ريادة أعمال وإما وظيفة، وكذلك ليست كل الظروف متشابهة، وليس كل البشر متشابهين، فبعض الناس طبعوا على أن يكونوا موظفين والبعض لا يتحمل الوظيفة لذلك يعتقدها عبودية، فلا يمكن أن نُخرج الموظف من قوقعته الوظيفية ونزج به في سوق العمل ليقود عمله الخاص، فإن ذلك سيقوده حتما الى الفشل، والعكس صحيح، فلا يمكن أن نغلق على رائد الأعمال الأبواب ونقيده بأغلال الوظيفة ونقول له قم بما يأمرك به أرباب العمل. أذكر ذات مرة وحينما كنت أشغل وظيفة مدير علاقات عامة وإعلام بيئي كنت بحاجة الى بعض الموظفين، وكنت أعرف صديقا وزميلا كان معي أثناء مرحلة الدراسة الجامعية وكان يعمل آنذاك مدرسا، فطلبت منه أن يأتي ليعمل معي في الوظيفة كرئيس لقسم العلاقات العامة، لكنه رفض، وكان عذره أنه مرتاح في عمله ولا يريد الخروج من هذا الإطار ليخوض مغامرة غير محسوبة العواقب، فلنتصور، مجرد انتقال من وظيفة حكومية (مدرس) إلى وظيفة حكومية أخرى كان يعدها مغامرة، ولكنه لم يغامر، فكيف الانتقال من وظيفة ثابتة وراتب ثابت إلى مهنة غير معروفة العواقب. هكذا هم البشر، فكما لدينا مخطط فإنه لدينا منفذ، فلا يمكن الخلط بين الاثنين، لذلك لدينا موظف ولدينا رائد العمل، والموظف مطلوب بكل قيوده وضغوط العمل، وكذلك العمل الحر مطلوب بكل عواقبه ومغامراته، فالحياة لا تستقيم إلا بهذين الطرفين. فالكل يعمل في المجال الذي هو يميل إليه والذي خلق لأجله «فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك فإن الوسطية أمر مطلوب، فالإسلام دين الوسطية، ولا نريد أن ندعو إلى ريادة الأعمال والأعمال الحرة فحسب، ولا نريد أن نلغي العمل الحر وندعو إلى تبني فكرة الوظيفة، وإنما نميل إلى تبني جناحي العمل، فمن غير الوظيفة من سيقوم بالتدريس والتعليم، ومن غير الوظيفة من يقوم بمعالجة المرضى، ومن غير الوظيفة من سيقوم بإنتاج الغذاء والماء وما إلى ذلك، وفي المقابل من غير ريادة الأعمال والأعمال الحرة من سيقوم بتوظيف الموظفين، ومن يقوم بابتكار الأشياء وتوليد الأفكار، ومن يقوم بجلب الأموال الى البلاد وينمي الاقتصاد؟ إذن باختصار نحن أمام كفتي ميزان، لا نريد أن تميل كفة على حساب كفة أخرى، وإنما نريد أن تتساوى الكفتان، فمن يجد في نفسه القدرة والموهبة على ريادة الأعمال فليتوجه الى ذلك، ومن يجد نفسه في الوظيفة فله ذلك. وفي المقابل، فإنه يجب أن تقوم الحكومات بدورها في تنشيط وتقديم العون لهؤلاء وهؤلاء من غير تحيز ولا تفريق، وهذا حديث آخر. Zkhunji@hotmail.com
مشاركة :