اليوم، نستقبل على كرتنا الأرضية، وفي دولة الإمارات خصوصاً، رائد الفضاء الإماراتي الأول، وأول عربي يزور محطة الفضاء الدولية، هزاع المنصوري؛ الذي يختتم رحلته الفضائية، متوجاً مسيرة متميزة ابتدأت من «ليوا»، ليهبط في وطنه، في حضرة قيادته، وبين أهله ومحبيه، نجماً يضيء الطموحات الإماراتية الوثابة لصنع صدارة وريادة جديدة، في مجالات كانت قبله حصراً على حزمة من الدول الكبرى. نبع الخير هذا الحدث، يعيد إلى الواجهة الكثير من المعاني الملهمة والمغازي المشبعة بالرمزية، التي تمثل في كل واحدة منها نبراساً يضيء على محطات الإلهام في مسيرة الإمارات وأهلها. وتضفي مزيداً من المصداقية على الخطط والبرامج والاستراتيجيات الطموحة، التي تتبناها الدولة، وتبدو للبعض ضرباً من الخيال. وفي كل واحدة من هذه المعاني، نجد «ليوا» مسقط رأس هزاع المنصوري، واحة في قلب الصحراء التي خرج منها الإماراتيون ليبنوا مدنهم وحياتهم وكياناتهم، ثم دولتهم الاتحادية، التي صنعت نموذجاً وحدوياً فريداً هو الوحيد في العالم العربي، ومن القلائل في العالم. ولا يستطيع المرء هنا إلا أن يقف متأملاً الصورة التي نشرها المنصوري، خلال وجوده على متن محطة الفضاء الدولية، لدولة الإمارات؛ لقد كان المنصوري في صغره وشبابه، يخرج إلى صفاء الصحراء في «ليوا»، لينظر إلى النجوم في السماء البعيدة. وها هو اليوم، ينظر من الفضاء الأزرق الرحب إلى الأرض، حيث الإمارات، وفيها «ليوا»..! وهذا حظ الإنسان في وطنه المحب، ودولته الطموحة، وقيادته الرشيدة، التي صنعت من حلم الطفولة البريء حلم وطن مقدام جريء، وقادت هذا الحلم للتحقق! لم يكن غريباً أن هزاع المنصوري، الذي كانت قدماه تغوصان في رمل الصحراء أن يلتفت إلى نجوم السماء. فكثرة الرمال تحيل إلى كثرة النجوم بالعادة. كما أن الصحراء، بصفاء ليلها، وسكون كثبانها، تتيح للإنسان أن يسمع ويرى ما لا يراه الآخرون. ومن هنا تنبع الأحلام! أديم كوني في الواقع، تبدو الصحراء نفسها، برمالها وكثبانها، أديماً كونياً. هي انعكاس أرضي لوجه الفضاء، وصورة له، متاحة للتجربة الإنسانية؛ ويختبر فيها الإنسان علاقة منفردة ومباشرة مع المكان، وبالتالي، مع الكون.. وبذا، فإن الإنسان الذي يمتلك جرأة القيام برحلة إلى الفضاء، وأن يكون هناك وحده أو مع مجموعة قليلة من الأفراد، هو بالضرورة إنسان قادر على اختبار حالة الوجود الفردي في المكان، والتعامل مباشرة مع الحقائق الكونية، بمحبة، ودون ذعر. هنا، تحضر «ليوا» الصحراء، التي توفر مثل هذه العلاقة الفريدة، ولا بد أن المنصوري عاشها هناك، فيها، حيث رسم خطواته الأولى، ورفع لأول مرة رأسه للأعلى، فأبصر الفضاء بنجومه وشموسه وأقماره. غير أن «ليوا» ليست مجرد صحراء. إنها واحدة من أكبر واحات المنطقة، تميزت بأمرين اثنين، أنها جد داخلية، محمية بين كثبان الرمال، ومساحات الصحراء الصفراء. وأنها، رغم ذلك، ملتقى الطرق من الجهات كلها، ومحطة لا بد من التوقف فيها للمرتحلين والباحثين عن الأسفار. غير أن المنصوري اتخذها منطلقاً إلى أبعد رحلة ممكنة. وجوه الآباء «ليوا» الواحة، الواقعة في قلب الصحراء، يمكن رؤيتها بشارات مجد مبكرة تجسدت في ملامح الآباء المؤسسين؛ على وجه المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، بينما كان يفترش الأرض ويخط بعصاه على الرمل مشروعات ضخمة، ومدناً ومشاريع إنشائية، وفي ميله للتواصل مع العالم الكبير، وفي قسمات الفضول على وجهه بينما كان يستمع إلى رواد الفضاء الزائرين، الذين كانوا يروون له تجربتهم. «ليوا» الواحة وبشارة المجد، يمكن رؤيتها على الجدية التي كانت ترتسم على وجه المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، وهو يجلس منهمكاً في عمله وراء مكتبه، تحدوه همم التميز والعلياء، وبيده القلم، وأمامه حزم الملفات وجموع المراجعين. وهي تبدو في كل لحظة تملكه فيها مشروعاً جديداً، أو قراراً يفتح الباب أمام فرص جديدة.. لقد أهدت «ليوا» لهزاع المنصوري حلم طفولة ثميناً جداً. ذلك أنه حلم وطن، تحقق بفضل رعاية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، ومتابعة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة. لقد أهدت «ليوا» لهزاع المنصوري حلمه، كما أهدت من قبل لكل الإماراتيين أحلامهم وطموحاتهم الكبيرة، التي انطلقوا منها لبناء دولتهم، التي هي اليوم محط الأنظار. صاحب الرؤية لقد ألهمت صحراء «ليوا» كما هي كل ذرة من رمال الإمارات أبناءها ليكونوا صنَّاع مشاريع حضارية كبيرة وعملاقة. وبالأمس القريب، أطلقت «ليوا» ابنها هزاع المنصوري إلى رحاب جديدة، وإلى آفاق فريدة، حاملاً معه تجربة الآباء المؤسسين، وطموحات القيادة الرشيدة. وهذه لحظة تاريخية مميزة تؤكد، بما لا يقبل الشك، أن الإمارات دولة شابة بفعلها، وثابة بتفكيرها، لا تتوقف عند حدود، ولا تتردد في مواجهة التحديات. ورحلة المنصوري الفضائية، نفسها، هي بحد ذاتها تحدٍ كبير، ما كان ليتحقق، لولا «الرؤية» والإرادة والعزيمة، والاتصال الفعال مع تجربة الآباء المؤسسين ونهجهم وحلمهم. وهنا، يقف صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، أميناً على التجربة والحلم والنهج، وصاحب رؤية، رفد الإماراتيين وأغناهم، وشد هممهم، من خلال ما خط قلمه من كتب، وقراءات ثرية ثاقبة في تجربة الإماراتيين ودولتهم ومسيرة الآباء المؤسسين، فأبقى شعبه على اتصال قوي، بإرثهم، وحرص على أن يكونوا على النهج. هي «ليوا» الواحة والصحراء، إذن، ومرة أخرى. بين فكر وإرادة. وعزيمة وإقدام. معانٍ ملهمة اليوم، نستطيع أن نقول إن هزاع المنصوري الذي ذهب في أقصى رحلة، يحقق أبعد حلم. وأنه، في أيام غيابه الثمانية عن كوكب الأرض، كان الأقرب والأكثر حضوراً بالنسبة لقيادته، وأهله من أبناء وطنه ومحبي الإنجاز والنجاحات الحضارية والإنسانية. واليوم، أيضاً، تستطيع دولة الإمارات أن تباهي العالم بأنها أرسلت إلى الفضاء أول رائد فضاء عربي، ليس إلى محطة الفضاء الدولية فقط، ولكن الأول الذي انطلق في سياق برنامج فضاء متكامل، ينقل العالم العربي إلى الشراكة مع العالم المتقدم بالفضاء. إنه يوم أغر، بلا شك، وفيه من المعاني الملهمة ما نعجز عن رؤيته اليوم، ولكن ستظهر لاحقاً، بأجلى وأوضح صورة. غير أن ما يمكن أن نلتفت إليه الآن، في يومنا هذا، أن الإمارات تواصل تحقيق الإنجازات في مسيرتها لتحقيق مكانة رائدة عالمياً في جميع المجالات، في نهج عبرت عنه كلمات صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، التي يؤكد فيها أن لا شيء يمكن أن يتخيله الإنسان مستحيل، وبنفس الدرجة كلماته التي شدد فيها على: «أنا وشعبي نحب الرقم واحد». كلمات كثيرة قالها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، ستقفز إلى الواجهة اليوم، إذ إن الإنجاز يذكر بها، ويؤكد أنها لم تكن مجرد كلمات. هي بالتأكيد طموحات، ولكنها أحيطت بالجهد والعمل، تماماً كما كانت، جاءت نتيجة تفكير ثاقب حصيف. عهد «رؤيتي» وفي الواقع، يجد هذا الإنجاز مكانه في الحديث عن العقدين الأخيرين، اللذين يعبران عن الـ«رؤية» التي وضعها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، وارتبطت بإنجازات جمة نوعية ومبتكرة، رسمت بصماته الواضحة على وجه الحياة في الدولة ودبي. لقد كان هذا المقطع الزمني الممتد من العام الأخير في القرن الماضي (1999) إلى عامنا هذا، هو عهد «الرؤية» المتبلورة. وهو باختصار عهد «رؤيتي»، الذي سجلت الدولة ودبي منذ بدايته انطلاقة وثابة لفتت الأنظار، وحركت الساكن في المنطقة برمتها، وفرضت نفسها مثالاً يشار له بالبنان. ابتدأ سموه هذا المقطع الزمني في أيام مثل أيامنا هذه، قبل عقدين، بحراك مميز في دبي دار حول تأسيس مجتمعات اقتصادية معرفية متخصصة، تجسدت بثلاثي «مدينة دبي للإنترنت» و«مدينة دبي للإعلام» و«قرية المعرفة»، الذي أمر سموه بتأسيسه في سبتمبر العام 1999. وشكل هذا المشروع الثلاثي، لحظة مفعمة بالطموح سرعان ما قادت إلى مشاريع الجزر الاصطناعية، التي غذت اندفاعة طموحة هائلة نحو الأفكار الملهمة والمبدعة؛ فامتلأت العشرية الأولى بالطموح والأمل، وأضحت الحياة مبشرة وواعدة. وكما انتهت العشرية الأولى من هذا المقطع الزمني، بافتتاح «برج خليفة»، المشروع الذي أضحى أيقونة عالمية، واشتهر بتصميمه المتسامي إلى السماء، فإن العشرية الثانية من عهد «رؤيتي» تتوج اليوم بارتياد الفضاء. دروس «ليوا» «ليوا» النبع الذي جرى منه نهر الخير والإنجاز، هي اليوم، مشهد بهيج في الظفرة، وهي لحظة سعيدة في زمن الإمارات. وهي بعودة ابنها رائد الفضاء المنصوري تجدد نفسها واحة ساحرة بمزارعها اليانعة الخضرة، وأشجارها التي تلون الرمال الذهبية. وهي بلا شك شريكة في الإنجاز الإماراتي الكبير فتضيف إلى رصيدها من التاريخ والواحات الفضاء وقبس المستقبل؛ فهي اليوم مسقط رأس واحد من النخبة القليلة من أبناء الإنسانية الذين رسموا الحلم البشري في الفضاء، عبر الأثير. وهي اليوم، بمأثرة ابنها رائد الفضاء الذي أهدته للدولة، ترد الجميل للمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، الذي أولاها اهتمامه الكبير، واهتم بتطويرها، وتعميرها وزراعتها، وإدخال مظاهر الحياة والخدمات العصرية إليها. و«ليوا»، تمنحنا دروسها في الإيجابية، ومن أول هذه الدروس واحد حول أهمية أن نربي الأحلام، لا الأوهام، في أنفس أطفالنا وناشئتنا، فأحلامهم قد تكون ذخراً لنا؛ وأن نمنحهم الفرصة على أن يؤمنوا بتلك الأحلام. الدرس الآخر، الذي لا يقل أهمية، أن الدول، مثل البشر، تحلم، ويمكنها مثلهم أن تحقق أحلامها، وأن تحول هذه الأحلام إلى مشاريع واقعية، ذات مردودٍ مجدٍ. درس «ليوا» المستمر يعلمنا أن الصحراء، قد تعني الواحات، والوفرة والعطاء المستمر المتواصل، الذي لا ينضب. عودة ميمونة في هذا اليوم، الذي تتعلق به الأنظار إلى الشاشات في انتظار وصول رائد الفضاء هزاع المنصوري، هناك الكثير مما يقال؛ وأول ما يمكن أن يقال إن الفكر والعمل يقودان إلى الإنجاز، وإن الكلمات هي إزميل يحفر في المستحيل، ويخترقه؛ فحدث اليوم، كان بالأصل كلمات رددها أصحابها باستمرار وإصرار، وأحاطوها بالعمل الجاد المثابر، فجاءت بالإنجاز الكبير، ووضعت الدولة على أعتاب مرحلة جديدة، واعدة ومبشرة.طباعةEmailفيسبوكتويترلينكدينPin InterestWhats App
مشاركة :