أين النقد في المشهد الثقافي الإماراتي؟ سؤال يتردد بين الأوساط الثقافية في دولة الإمارات، وغالباً ما يطرح خلال أروقة الندوات وبين المقالات الثقافية في الصحف المحلية. وطرح مثل هذا التساؤل صحيّ، بل وحاجة ملحة لنضج الحركة الثقافية والوصول بها إلى المستوى المأمول، ولكن الأسئلة الأجدر طرحها هي: أين المبدع من النقد؟ وهل طلبُ النّقد هي عملية أُحادية الطرف، بمعنى أنها لابد وأن تأتي المبادرة من الناقد فقط؟ وهل النقد ـ إن وجد ـ يقوم بالدور المأمول منه في المساهمة في نضج العملية الإبداعية في الدولة؟ إن النقد الأدبي تراث عربي عظيم، ترك لنا أسلافنا النقاد القدامى فيه كنوزاً غالية كنقد الشعر لقدامة، ونقد النثر لابن وهب، والموازنة للآمدي، والوساطة للجرجاني، والعمدة لابن رشيق، ومناهج البلغاء لحازم، والمثل السائر لابن الأثير، وغيرها. ولما جاء العصر الحديث عاد النقد الأدبي إلى ساحة الأدب بتراثه ومؤلفاته الخالدة، ووفد علينا النقد الغربي بمناهجه المختلفة التي ترجمت إلى العربية على أيدي الذين تعلموا في جامعات ومعاهد أوروبا، وعلى أيدي الأدباء الذين قرأوا للنقاد الغربيين مؤلفاتهم النقدية وتأثروا بها. لفظ النقد هو تمييز الجيد من الرديء، قالوا: نقدت الدراهم وانتقدتها، أي أخرجت منها الزيف وميزت جيدها من رديئها. وسار نقاد العرب في القديم والحديث على أنه التحليل والشرح والتمييز والحكم، فالنقد هو دراسة الأشياء وتفسيرها وتحليلها وموازنتها بغيرها المشابه لها، أو المقابلة ثم الحكم عليها ببيان قيمتها ودرجتها. ووظيفة النقد الأساسية هي تقويم العمل الأدبي من الناحية الفنية، وبيان قيمته الموضوعية، وقيمته التعبيرية والشعورية وتوضيح منزلته وآثاره في الأدب. وحين يدّعي البعض أن عملية النقد غير متوازنة مع عملية الإنتاج الإبداعي في دولة الإمارات فإننا نشاركه الجزء من هذا الرأي، واتفاقنا الجزئي هذا مع من يقول بذلك بهدف أن نثير الحركة النقدية قي الساحة الثقافية بشكل أكبر ليس لمجاراة النتاج الأدبي فحسب، وإنما للنهوض به وتقويمه والأخذ بأيدي المبدعين الشباب إلى الجودة الإنتاجية بما يتناسب مع الرؤية الثقافية المرجوة. والجزء الآخر الذي نختلف فيه مع من يدعي ضموراً في الحركة النقدية في الساحة الثقافية في الدولة، وهو مما لا أساس له من الصحة، ولدينا أكثر من دليل على ذلك وسوف نقرّب المجهر عليها خلال الفقرات القادمة. أنواع النقد الأجدر بداية أن نوضح أنواع النقد الأدبي، والتي من خلالها يمكننا الوقوف على أكثر من مبادرة نقدية حاضرة في المشهد الثقافي في الإمارات. * النقد الذاتي أو التأثري: وهو الذي يقوم على الذوق الخاص، ويعتمد على التجربة الشخصية وعلى المنهج الموضوعي. * النقد الموضوعي: وهو الذي يركن إلى أصول مرعية وقواعد عقلية مقررة يعتمد عليها في الحكم، كطريقة قدامة في كتابه «نقد الشعر». * النقد الاعتقادي: وهو النقد الذي تتحكم فيه عقائد وآراء خاصة عند الناقد ـ وهو ما لا نميل إليه ـ والذي يحمل في طياته الميل إلى النزعة الخاصة، وكلما تحرر الناقد في نقده من آرائه معتقداته الشخصية كان تقديمه عادلاً وأكثر إنصافاً وصدقاً وتحرياً للحقيقة، إذ إن تجرد الناقد من هواه وآرائه شرط أساسي لسلامة أحكامه النقدية من الجور. * النقد التاريخي: وهو النقد الذي يحاول تفسير الظواهر الأدبية والمؤلفات وشخصيات الكتاب، فهو يعنى بالفهم والتفهيم أكثر من عنايته بالحكم والمفاضلة، وتفسير الظواهر الأدبية أو المؤلفات أو شخصيات الكتاب يتطلب معرفة بالماضي لهم، وكذلك بالحاضر الذي أثر فيهم. * النقد اللغوي: وهو الذي يحكم فيه على أساس اللغة وقواعدها الأسلوبية واللغوية المقررة. وكل الأنواع النقدية تساهم في تقويم العمل الفني، ووجب على صاحب العمل أن يبحث عن نوع النقد الذي يريد والذي يساهم به في البصمة التي يطمح أن تُشع في المجتمع وبين الأوساط الثقافية. ويمكن للناقد وكذلك الأديب الانتفاع من جميع المذاهب النقدية لإبداع نقد مستقل. وهنا أطمئن صاحب القلم بأن ما ذكرناه من الأنواع النقدية هي حاضرة في الدولة وموجودة ومتوافرة، لكن لمن يبحث عنها، ويطلبها. وأذكر بعضاً من المنارات النقدية التي يمكن أن تكون ضالة الأديب: الجامعات والكليات والمؤتمرات الدولية والمراكز الثقافية ومعارض الكتب واتحاد كتّاب وأدباء الإمارات في الدولة لها حضور ونشاط فعّال في الساحة لما تقوم به من مبادرات في مجال قراءة النصوص والأعمال الأدبية ونقدها، وأحيانا يُدعى صاحب العمل لحضور تلك الفعاليات. من هذا المقال أرسل دعوة للكتّاب والأدباء والشعراء وخاصة من هم في أول السلّم الأدبي أن يبادروا إلى طرق هذه الأبواب التي يَسهل فتحها والتي ستؤثر الأثر الكبير في نتاجاتهم الأدبية من أجل الاحتكاك بالنقاد الذين تزخر وتفخر بهم الجامعات في الدولة، وهم الذين لا يألون جهداً لمن يطرق أبواب فكرهم وخبرتهم. ولزام عليّ أن أخص بالذكر هنا أستاذة جامعة الوصل وجامعة الشارقة - قسم الأدب والنقد والذين لهم كل التقدير والامتنان، إلى جانب ندوة الثقافة والعلوم من خلال مجموعة القراءة التي تحمل أسماء لها تاريخ وحضور وبصمة في الحراك الثقافي، خاصة في مجال الرواية، واتحاد كتّاب وأدباء الإمارات الذين قاموا بإنشاء أندية ومنها نادي النقد الذي يُعنى بالعملية النقدية في دولة الإمارات. ويمكن كذلك اللجوء إلى معارض الكتاب التي دائما تحتفي بمبدعي الوطن العربي من الكتاب والأدباء والشعراء فتلك فرصة للاتقاء بهم في سبيل تكوين صورة أشمل عن الواقع الأدبي. إذن الحلقة النقدية لها ثلاث زوايا لا يكتمل مثلث الإبداع إلا بها: الناقد والمبدع والعمل الأدبي، لزام على الزوايا الثلاث أن توجد الترابط مع بعضها وإلا لا تكتمل أضلاع المثلث، وإن تخلف ضلع الناقد وجب على المبدع أن يصل نفسه به، وضلع الناقد واجب عليه كذلك أن يبحث عن الضلعين الآخرين، لتكتمل العملية النقدية. وتلك الحلول والأبواب أؤكد أن فيها إجابات تساؤلات المبدعين، ومن يشقون طريقهم الإبداعي. وفي ذات الوقت نطمح بأن يكون النقد بالمستوى المطلوب وخاصة بين النقاد الإماراتيين والذين هم قلة في واقع الأمر ولا يهمنا زيادة العدد بقدر الجودة والتمكن والوقوف على قواعد ثابتة وقوية للنقد. حلول وبدائل هذه دعوة إلى التوقف عن الإشارة بأصابع الاتهام والبحث عن حلول وبدائل، فهذا جزء من التفكير الإبداعي الذي نرجو أن يتمتع به المبدع. والابتعاد عن ظاهرة غريبة يمكن أن نتلمسها عند البعض وهي سخرية الأدباء وتعاليهم وكبريائهم، بل وغرورهم الذي يودي بهم إلى السخط والثوران على كلمة النقد وهي أول بوادر الضعف الأدبي الذي لا ينبغي لنا أن نقع فيه. إن الأدب العربي يعتز بكوكبة من النقاد الذين تسنموا ذروة المجد في عصرنا ومن بينهم: العقاد، طه حسين ورشاد رشدي ومحمد مندور وشوقي ضيف ومصطفى السحرتي وأحمد الشايب وعبدالعزيز شرف وغيرهم. والنقد المعاصر يجمع بين الأصالة والمعاصرة، وبين التراث والحداثة، وللأسف يرجح جانب الحداثة بعض شباب النقاد الذين لم يقرأوا في النقد العربي القديم، ولم يقفوا على تياراته ومذاهبه. وينبغي على الناقد العربي المعاصر أن تكون له ثقافته الفنية واتجاهه الفلسفي ومُثله الحضارية وقيمه الخُلقية وأن يطبقها على الأعمال الأدبية في حرية وشجاعة، فيزن ما في العمل الأديب من مقومات فنية، ويقوم بتقييم المضمون، ولو أبيح للأديب أن يقول ما يشاء فينبغي أن يباح للناقد أن يعقب على عمل الأديب! إن ثورة النقد هي دائما التي تنير السبيل أمام النهضة الأدبية، والنقد الحر النزيه هو الدعامة للأدب الرفيع، وإن النقد يعاون الأدب والأدب يغذي النقد، فلم يسلم رواد الشعر من أقلام النقاد، وأصاب شوقيا وحافظا ومطران وأبا شادي وأحمد محرم ما أصابهم من سخط النقاد وثوراتهم، ومع ذلك حاولوا دفع النهضة الشعرية إلى الأمام بقوة وعزم وتصميم. وكان العقاد والمازني ممن ثاروا على مذهب شوقي في الشعر، واشتدت الخصومة الأدبية بين الرافعي والعقاد، وبين رمزي مفتاح والعقاد كذلك، وظلت معارك النقد تؤجج الشعلة التي انتقلت إلى الأدباء المصريين جيل بعد جيل، ولا تنسى الخصومات الأدبية بين أحمد أمين وزكي مبارك. وهذه الخصومات الأدبية التي يحتدم فيها الخلاف بين الأدباء ويحكم فيها النقاد ـ منصفين أو متحيزين ـ كانت مواسم خصبة للأدب، تدفع الشباب إلى متابعة قضايا الأدب ومشكلاته ودراسته وإلى الاهتمام به، وجاءت تباعا خطوات بنّاءة في النقد وهي من القوة والدقة والعمق بمنزلة عالية ذات أثر في توجيه حركة الأدب والنقد. ولا نزعم أننا وصلنا في عالمنا العربي إلى كل غاياتنا في الميدان الأدبي، ولكن نؤمن ـ وخاصة نحن مثقفي دولة الإمارات ـ أننا لا زلنا في أول طريق النهضة التي نريد أن نبلغها في الأدب، ولن نصل إليها إن استخدمنا طريقة النعامة في دس رؤوسنا وعدم مواجهة السيئ والرديء، وهي وظيفة للناقد النزيه الذي يتخلى عن سمة المجاملة في فلك ما يعرف بنظام «الشللية»، مما يدفعنا إلى طرح تساؤل أخير: كيف يمكن التأكد من صحة أحكام النقد؟ إن الحقيقة التي لابد وأن ندركها هي أن النقد فن، ويمكن التأكد من صحة أحكام النقد بمدى تماسكها وقدرتها على تفهم العمل الأدبي وتفسيره وتحليله وتحديد مواطن القوة والضعف فيه. إن الحركة الأدبية في دولة الإمارات نتاجاً أدبيا أو نقدا ننشد بها طريقا إلى الرشد والحضارة، وواجبنا بأن نلح في العملية النقدية إلحاحا شديدا لنصل إلى الثمرة الطيبة للمجتمع المحلي والإنساني.
مشاركة :