يوم أقمت فيها قبل أكثر من عشرين سنة كانت الدوحة مدينة كريمة ومتسامحة ومتواضعة. كنتُ أراها بريئة إلى درجة السذاجة، بحيث صدقت أن "دوار مجنون" هو جزء من تلك البراءة. ولأني كنت اتحاشى المرور بذلك الدوار بسبب كثرة الشوارع المتقاطعة فيه من غير وجود إشارات ضوئية فقد كان علي أن أقضي وقتا أطول في العودة إلى بيتي من مقر عملي. أحببت تلك الدوحة ولا أزال أحبها. فيها تعرفت على نوع من الصلح الداخلي لم يكن ممكنا في العراق الذي تفرغ لقسوته وعنفه وجنون سياسييه. كان بيتي في شارع شراعوه قريبا من المتحف الوطني يطل على البحر. فكنت أمارس رياضة المشي على الكورنيش وصولا إلى فندق شيراتون بمثلثه المقلوب وهو أخر معالم المدينة التي تدير ظهرها للبحر من أجل أن تتأمل الصحراء. غير أن ما صدمني في الدوحة أنني اكتشفت عن طريق الصدفة أنها كانت تأوي فريقين عقائديين متشددين يظهران على السطح كما لو أنهما عدوان متناقضان وهو ما لم يكن حقيقيا. جماعة الإخوان المسلمين المصرية وحزب الدعوة الإسلامية العراقي المرتبط بإيران. كان ذلك الاكتشاف حدثا محزنا بالنسبة لي. اما مشهد الزعيم الاخواني السوداني حسن الترابي وهو يتجول بين مجالس الدوحة باعتباره ضيفا أميريا فقد ترك أثرا كئيبا في قلبي. وكانت خطب القرضاوي في مساجدها تحث المصلين على تمويل الجماعات الإرهابية وفي مقدمتها طالبان. يومها انفتحت عيني على المعنى الذي انطوت عليه السخرية الإعلامية القطرية من مصر وعمق العلاقة القطرية بإيران. دفعني ذلك التفكير إلى مغادرة الدوحة وهو ما استغربه الكثيرون الذين لم يصدقوا أن يغامر عراقي كان قد أحرق المراكب من ورائه بترك حياة تتكلف في ترفها. اليوم يعيش القطريون في مدينة أخرى. تلك مدينة أقيمت على آثار المدينة التي عرفتها. تبني الدوحة نفسها من أجل أن تكون مؤهلة لاستقبال مباريات كأس العالم. أيعقل أن تبني مدينة من أجل حدث مؤقت؟ لقد صدق القطريون الكذبة. بنيت برازيليا لأسباب عملية. بالطريقة نفسها بنيت دبي. اما الدوحة فإنها تُبني لأسباب استعراضية. وبغض النظر عن تفاهة السبب يقبل المرء ببناء مدينة حديثة. الفكرة نفسها تنطوي على شيء من الظرف والمزاج العملي. لمَ لا؟ لن يتوقف القطريون عن بناء مدينتهم بسبب حبي الرومانسي لمدينة غادرتها. غير أن الدوحة التي ارتفعت مبانيها كانت في الوقت نفسه تغوص داخل أرض ملتبسة بتفاصيلها الغامضة. فهي من جهة تستقبل الخارجين على القانون من أعداء الحياة الحديثة وهي من جهة أخرى فإنها تطرد خمسة الاف من مواطنيها هم بنو مرة حين تجردهم من حقهم في المواطنة. دائما كنت أمر بسيارتي بالقصر الأميري القديم الذي كان يقع في محاذاة الكورنيش ويخيل إلي أن الأمير يغمض عينا ويفتح أخرى ولا يقوم بالنظر بعينيه معا أبداً. لذلك تكثر التناقضات في كل ما تقوم به قطر. فهي دولة تدعم الجماعات الإرهابية وفي الوقت نفسه تستعد لاستقبال مباريات كأس العالم التي هي مناسبة للتسامح والآخاء والمحبة. قطر التي تدعو إلى إقامة نظام ديمقراطي في سوريا وليبيا وسواهما من الدول المنكوبة بمالها هي في حقيقتها لا تنظر إلى أحوالها الداخلية إلا من خلال منظار قبلي ضيق. دولة تبنى من أجل كأس العالم. وماذا بعد كاس العالم؟ هل ستستورد قطر سكانا ليحلوا في فنادقها الفارهة؟ لست هنا في صدد مناقشة سياسات الحكومة القطرية ولكنني أعجب لما حدث للمدينة التي كنت أحبها. كان في إمكان المرء أن يراها أما اليوم فإنها صارت عصية على النظر، يتوقع المرء في أي لحظة أن يبتلعه وحشها. آثار الإرهابيين الذين دعمتهم قطر لن تغادر خرائب حلب وحماه وحمص وتدمر والفلوجة ونينوى إلى الأبد.
مشاركة :