عنف المستبدين ولَّد عنفًا سياسيًا ومجتمعيًا مضادًا تلبّس بلبوس الدين والثقافة!

  • 10/5/2019
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

في المحاضرة التي عقدها «مركز عبدالرحمن كانو الثقافي» مطلع (سبتمبر) الماضي، والتي قدمها الباحث السعودي الدكتور زيد علي الفضيل تحت عنوان «أزمة خطاب المثقفين»، تناول الفضيل تعدد أشكال أزمات الخطاب الثقافي ضمن إطار النخبة العربية، بمختلف ألوانها وأطيافها في الواقع المعاصر، مناقشًا ما يراهُ أحد أوجه الأزمة، المتمثلة في «تفشي حالة النزق الثقافي في ثنايا الخطاب» كما عبّر عنه، سواء على الصعيد الفكري أو الاجتماعي، ليسلط الضوء على ظاهرة «النزق الثقافي»، ويرسمُ مسارًا للتخلّص منه، «للولوج إلى عوالم التنوير والحداثة الحقيقيين» اللذين يرى أن الأمة العربية «لم تعشهما بعد بشكل صادق».انفعالية الخطاب ونزقه.. طيشًا وخفة!إن ما جعل الدكتور الفضيل يذهب نحو التفكير في نزق الخطاب الثقافي، هي تلك الحوادث المتزامنة التي انطلق من خلالها لتبيان حالة النزق، في محاضرته، أولها ما أثاره الروائي المصري يوسف زيدان، قبل سنوات قلائل، عندما أثار بآراءه جدلاً واسعًا في الأوساط الثقافية إثر تصريحه الذي وصف فيه الجزيرة العربية بـ«الحتة الوسطانية»، موضحًا أنها كانت تخلو من الحضارة والعلماء، إذ بيّن الفضيل أن هذه الحادثة جعلته موقنًا بأن «زيدان وقع في فخ سيكلفه الكثير للخروج منه، وهو فخٌ سياسي وليس ثقافيًا»، مضيفًا «الثقافة الحق، والواعية، ستكون بمنأى عن أي تلاسن، وأن من سيلوك الأمر ويصعده هم زمرة المثقفين السياسيين»، بيد أن الفضيل تفاجأ بانخراط العديد من الرموز الثقافية المعروفة بوعيها وسعة تدبرها في هذا الجدال، واصفًا هذا الحدث بـ«النزق الثقافي الحاد الذي رأيته في ثنايا مشهدها، حول رأي معرفي، يمكن أن نتفق أو نختلف معه، وهو ما أيقظ في داخلي هاجس التفكير في طبيعة تفكير العقل اللاواعي، والتكوين السلطاني على مفاصل مجتمعنا المعرفي».أما الحادث الثاني الذي تزامن مع الأول، فهو ما وقع في المملكة العربية السعودية، عندما انتشر في فضاءات وسائل التواصل الاجتماعي وسم «سرقة الوزير»، بعد أن أنشد وزير الثقافة والإعلام عادل الطريفي أبياتًا شعرية لأمير الشعراء أحمد شوقي، دون أن ينسب الأبيات إلى قائلها، إذ يبيّن الفضيل «في هذه الحادثة وجد بعض المثقفين فرصة لتصفية حساباتهم مع الوزير»، متابعًا «تفاعل بعض المثقفين مع هذه الحادثة كان سياسيًا ولم يكن ثقافيًا».هاتان الحادثتان، وما تبعهما من تفاعل، دفعتا الفضيل إلى البحث عن موطن الإشكال، من خلال إثارة مجموعة من التساؤلات، إذ «كيف يمكن للمثقف المعرفي أن يتحول في لحظة عابرة إلى بوق من أبواق السلطة؟»، يقول الفضيل موضحًا أن السلطة لا تقتصر على معناها السياسي، بل تمتد لما هو أخطر منها «سلطة الهوى والمعرفة التي هي أخطر أنواع السلطات التي يمكن أن نعيشها في الوقت الراهن»، ويضيف متابعًا تساؤلاته «هل حالة النزق التي نعيشها في مشهدنا المعرفي عابرة أم متأصلة ومتعنة؟ وهل أزمة وجودنا العقلي ونزقه الانفعالي، خاصة بتيار أصولي تقليدي ديني أم هي مستمدة في تركيبتها بمختلف التيارات المادية الجدلية أو التنويرية؟»، مؤكدًا أنها متجذرة، «وهذا ما يمكن استشفافه من خلال عدد من ردود الفعل الشفهية والمكتوبة، ذات الطابع الثقافي، خاصة فيما بات يعرف بـ(التسنن) و(التشيع)، سواء على الصعيد السياسي أو الديني، الذي يفترض فيه أن يقف المثقف موقف حياد، دون أن يأبه بأي قول، ودون أن ينخرط في بعض مفاصل عرفها، وهو الذي يزعم امتلاكه إدراكًا معرفيًا».عن النزق الثقافي وأصل العنفيرى الفضيل أن للنزق جانبًا من زوايا مشهدنا الثقافي، إذ ينزلق في بعض الأحيان إلى العنف، وسلوك النزق تجاه الآخر، مبينًا أن هذا الأمر ليس جديدًا في الوعي الثقافي، إنما له أصوله التاريخية، «فالعنف كسلوك بشري نقيضٌ لمفهوم التسامح، وهو نابعٌ من الصراع على السلطة، وغريزة حب السيطرة، وفرض الأنا الواحدة، وكل هذه المنابع متأصلةٌ في الجذور التاريخية، حتى وإن لم تبرز بصورة واضحة في الكثير من الفترات التاريخية»، ويتابع «عمل المستبدون على تغليف عنفهم المادي والمعنوي، إزاء الآخر، بأغطية دينية وثقافية مختلفة، وذلك بهدف إيجاد المسوغ القومي والمجتمعي لمختلف ممارساتهم العنيفة، بغية تحقيق مأرب سياسية، وتصفية الخصوم، ومصادرة كل مظاهر الحريات، وهذا بدوره ولّد عنفًا مجتمعيًا وسياسيًا مضادًا، حرص هو الآخر على التلبّس بلبوس الدين والثقافة، والاقتران بالمشروعية الفقهية القانونية والثقافية»، وأدى كل ذلك إلى إرهاق الأمة التي «لا تزال تعيش هذا الإرهاق إلى الآن» كما يقول الفضيل.موضحًا أن العنف «لم يقتصر على الخلفية السياسية، بل امتد إلى الجانب الفكري مع مرور الزمن»، وبهذا يبيّن الفضيل كيف أصبحت القراءة الدينية، والفهم الأحادي للنصوص الإيمانية، «مركزية في جنوح البعض لاستخدام العنف كوسيلة لاثبات منهجه، أو للاستفادة منها كردة فعل مقاومة للآخر المخالف»، مؤكدًا أن الدين من حيث حقيقته، وجوهره الرباني «هو نص تشريعي قابل للتأويل وتبادل الفهم، ولا علاقة له بمآلات الأمر كليًا»، وبالتالي الإشكالية كما يؤكد الفضيل «ليست في أصل النص ومصدره، وإنما في الكيفية التي تم تأويلها بها، والظروف المحيطة لذلك».جذور النزق الثقافي ومراحل تغيرهبتوسعه في الجذور التاريخية لهذا النزق الثقافي وانزلاقاته نحو العنف، يوضح الفضيل أن المجتمع العربي قديمًا كان ينقسم إلى شكلين؛ الأول «مجتمع الصحراء أو النسق الصحراوي» كما يسميه، والثاني «النسق الحضري الزراعي»، مبينًا «كان النسق الأول، قبل الإسلام، يتميز بتحفظه إزاء القبول بالتعدد، وحق الاختلاف، وكان قائمًا على خاصية الأخذ، تلك التي تعتمد مفهوم القوة، في المقابل كان النسق الحضري، وهو ما كان واضحًا في مجتمع المدينة، قبل الإسلام، يقوم على خاصية الأخذ والعطاء، ويعتمد منهج المنفعة، وبالتالي أتاح له ذلك التعاطي مع الآخر، نظرًا لكونه يعتمد المصلحة لا القيم التي كانت تحرك النسق الصحراوي».هذه الأنساق تغيرت في مجتمع لاحق، أي بعد النبوة، إذ «أرادت المرحلة النبوية، تغيير سلوك الأنساق هذا، وتأسيس ذهنية جديدة، تقوم على الكفاءة المتساوية في الإطار التشريعي، وتمكين المرء من حرية التطرق للإيمان بما يريد في الإطار الإيماني، بالإضافة للشراكة العادلة في الإطار الاقتصادي»، كما يوضح الفضيل، مستشهدًا بالعديد من الدلائل في التراث.في سياق الخلاص من سطوة النزقيقترح الفضيل للتخلص من النزق الثقافي الذي نعيشه اليوم أن ننحو نحو التخلص من ذهنية الإلغاء وحروبها، «فمهما تحاربنا لإلغاء الآخر، فلن نستطيع إلغاءه»، مبينًا أنه «ليس هناك سراط واحد، بل سراطات مستقيمة متعددة»، كذلك يستوجب الفضيل أن نؤمن بقيمة الوعي بالأفكار ودلالاتها وقيمتها، وزيادة مساحة التفكير، وتكثيف منهج التحليل والتأمل والتدبر، إلى جانب إثارة ما يسميها «أسئلة الدهشة والحيرة» للوصول إلى الحقيقة.كذلك يحث الفضيل على «تدريب أذهاننا لتكون في خانة الحياد، والتحلي بالشجاعة لغربة الكثير من النتاج الذي اكتسب حالة من القداسة والخيرية»، مؤكدًا أن ذلك هو مفتاح التحدي المعرفي الذي يتوجّب أن نخوضه، «بكل تجرد وجرأة»، وهو القاعدة الصلبة التي «سنتمكن عبرها من بناء منهجنا الثقافي الأصيل، القادر على مواجهة مختلف التحديات المعاصرة والمستقبلية، خاصة مع تحطم كل الحجب، وتماهي المعلومة، وانعدام القدرة على تشكيل أجيال وفق ما نريد، جراء ما نعيشه من عولمة لا خيار لأحدنا في ضبطها أو حجبها».وعلى ذلك، يشدد الفضيل أن جوهر أزمتنا المعاصرة «كامنٌ في الانسياق وراء نسق معرفي قائم على ثقافة ذهنية الغالب والمغلوب»، وللخروج من ذلك «لا بد أن نعبر النزق الثقافي، عبر رفض الاستبداد الثقافي، والإيمان بثقافة المثقف، وتعزيز روح التسامح، بمفهومه الحقيقي الذي يتمثل في عدم وجود حق مطلق، بل حق نسبي، ومراجعة ما تكوّنت الذهنية عليه من جهل، وتمكين الفكر الحر، وتنمية مبادئ الحرية».

مشاركة :