قبل أيام، شعرت بتعب شديد حتى تمكنت مني فكرة الهروب والاختباء في غرفتي والادعاء بأني غير موجودة. ألجأ عادة إلى مثل هذه الأساليب للتنصل من مسؤولية ما، هذا عندما يبلغ الإرهاق مداه فيصبح حتى التجوال في المنزل مهمة صعبة. أولى ضحايا هذا الشعور، الذي بدأ يزورني بصورة متكررة في الأشهر الماضية، وجبة الغداء أو العشاء المبكر كما يسميها بعض مقدمي برامج الطبخ كنصيحة لربة المنزل تساعدها في التنصل من بعض واجباتها اليومية. في مثل هذه المناسبات لا يعود باستطاعتي تحضير وجبة طعام غنية، فأستبدلها بوجبة خفيفة لا تتطلب جهدا في تحضيرها، أتجنب معها استخدام الهاتف للاتصال بأقرب مطعم للوجبات السريعة. “اليوم معكرونة بالجبنة”، أخبرت الأفراد المتضررين بقراري حال وصولهم من المدرسة، فابتسمت البنت الكبرى وهي تقول: “يبدو عليك التعب اليوم، أين ستختبئين يا ترى؟” قلت لها “في المطبخ”. فأضافت “ممكن أطلب حصتي من المعكرونة بالطماطم فأنا لا أرغب بالجبن اليوم؟”. “سهلة سهلة”، أجبتها وأنا أخرج الطماطم من الثلاجة وأتململ في مشيتي فحتى الوجبة الخفيفة تحتاج إلى تنويع، ربما لأني أنظر إلى الطماطم بصورة مختلفة عن الصورة التي يراها بها الناس. كان عمري عشر سنوات عندما بدأت التفكير الجدي بموضوع الهجرة، في مناسبة اجتماعية التقت فيها والدتي رحمها الله مع قريبتها هنا في لندن، وكانت السيدة قد أتمت في حينها أكثر من 15 عاما وهي بعيدة عن بلدها. سألتها أمي بابتسامة تعجب “ألم يحن الوقت بعد للعودة إلى العراق.. أنا في رحلة بسيطة وبدأت أشعر بالضجر فكيف هو شعورك يا ترى؟”. فأجابت السيدة مازحة “لا، ما لن أرجع أبدا، مازات الطماطم تشح في السوق وأخشى أن تخطر على بالي طبخة فيها طماطم وأبقى حائرة.. كيف؟”. شخصيا، صدّقت السيدة ولم يخطر في بالي بأنها كانت تمزح، لأن الطماطم كانت تشح كثيرا من السوق حتى أن الناس يلجؤون في فصل الصيف إلى تجفيف الثمرات وخزنها حيث يكثر المحصول ويقل ثمنه، وأحيانا يتم تحويلها بكميات كبيرة إلى معجون طماطم يستخدم للطهي في الشتاءات المقبلة. كان هذا سببا كافيا من وجهة نظري لأن يفكر المرء جديا بالبحث عن فرص أفضل للعيش، فليست الطماطم وحدها من كانت تشح في الأسواق وإنما أيضا البيض، الجبن، الزيت، الأرز، الطحين، وأغلب الخضراوات الموسمية إضافة طبعا إلى الوقود. كانت الأزمات الاقتصادية والسياسية تتبادل لعبة شدّ الحبل مع مقدرات الناس البسطاء، فتحيل يومياتهم إلى كدر وتعب وحرمان؛ فماذا يكون شعور ربة المنزل وهي تواجه سؤالا يبدو ساذجا ومدعاة للضحك في ظاهره؛ مثل “ماذا سأطبخ للصغار؟”. بينما هو في حقيقته غير ذلك، عندما يتكرر يوميا وعلى مدى سنوات من عمر محسوب على الإنسان أن يعيشه بمرّه ومراره، بعد أن يكون توفير طبق بسيط مثل المعكرونة بالطماطم أمرا عسيرا. لا تُحدث الأمور الصغيرة في حياتنا تأثيرا كبيرا في مجمل المشهد العام، لكنها تشوه صفاء ذهننا وتعرقل مخططاتنا بل تشغلنا عن التفكير بما هو أهم. في الحروب، يمكن للمرء أن يتكيف مع الظروف أيا كانت فيأكل القليل والشحيح من الطعام وقد ينام ساعات قليلة أو لا ينام، يبرد، يصاب بالأمراض ويحرم من زيارة الطبيب، وغير ذلك من الأمور التي تحدث في حالات الطوارئ. لكنها بطبيعتها حالات استثنائية ومؤقتة سرعان ما تختفي باختفاء السبب، إلا أن حالات العجز في متطلبات الحياة اليومية عندما تتحول إلى روتين مستمر يبدو بلا نهاية ومن دون سبب، فإن هذا من شأنه أن ينغص على الناس حياتهم بشكل لا يمكن تصوره لمن لم يعش هذه التجربة. تغيرت الأمور كثيرا هذه الأيام، حيث تتوافر المواد الغذائية والخضراوات في أغلب أسواق العراق، لكن الأسعار تضاعفت ولن تكون بأي حال في مقدرة المواطن الفقير، بينما شحت الكهرباء وغاب الأمن والأمان وأصبح البسطاء يخرجون في مظاهرات واحتجاجات لمجرد الدفاع عن حقهم في حياة كريمة بأبسط متطلباتها، فتفرق احتجاجاتهم بالرصاص الحي والماء الحار والغاز المسيل للدموع وكأنهم بحاجة إلى من يساعدهم على البكاء! اليوم وأنا أمسح دمعتي بعد مشاهدة صورة الشاب الوسيم الذي قُتل في مظاهرات بغداد، تذكرت قصة قريبة أمي وتساءلت “تُرى هل واظبت السيدة على غربتها أم شدّتها يد الحنين الخفية ذات شوق وعادت إلى العراق؟”.
مشاركة :